الأعمال الكاملة لريمون كارفر: قاع أميركا والناس العاديون
ليس بريمون كارفر، الكاتب الأميركي، غريبا عن العربية، إذ ترجمت له العديد من القصص في غير دورية ومجلة، كما ترجم له الشاعر الراحل بسام حجار مجموعة مختارة صدرة في كتاب، ما أتاح لنا اكتشاف واحد من أفضل قصاصي القرن العشرين. منشورات «لوليفيه» الفرنسية، أفردت له مؤخرا مشروعا كبيرا، يتمثل في إصدار أعماله الكاتبة، التي بدأت تصدر منذ تشرين الأول الماضي، وقد صدر الجزء السابع منها منذ أيام. حول هذه الأعمال كتبت مجلة «باروسيون» الكلمة التالية، التي ننقلها بتصرف، وهي تضيء بعضا من أعماله ومن حياته.
غريب هو الشخص الذي كان عليه هذا الشخص المختلف الذي يتوارى خلف لامبالاته التي تفرقه عن الناس العاديين. ففي البداية لا بدّ من أن نشعر بالحيرة من هذه الطريقة، المترفعة والدقيقة، في الوقت عينه، التي كان يرى فيها الأشياء التي كان يبحث فيها عن الأسباب، من دون أن نستطيع بالفعل أن نقبض على طريقته في كيفية بنائه كلّ هذه المناخات التي ندها في كتبه.
تمرين كتابي
أسباب تعود بالدرجة الأولى إلى المستوى الأسلوبي. كلن ريمون كارفر ينجح في أن يروي العديد من الأشياء بكلمات قليلة، مختارة بعناية كبيرة، عبر جُملٍ قصيرة، وضمن مزيج من الخطاب الشفهي والتأملات الفلسفية: للبرهان على ذلك، الجزآن الأولان من هذه الأعمال الكاملة «مبتدئون» و«حدثني عن الحب». فالأقاصيص السبع عشرة من الجزء الأول نعود لنجدها مروية في الجزء الثاني، وبالترتيب عينه حتى عبر الكلمات عينها ومن دون أن يلجأ حتى إلى تبديل القصة أو نهاياتها (فقط نجد أن العناوين مختلفة)، بيد أنه في ذلك كلّه كان يحمل في كلّ مرة، شيئا جديدا، وبكلمات أقل. فالجزء الأول يتألف من 305 صفحات بينما الثاني يقع في 108 صفحات.
بالتأكيد ثمة «تمرين في الأسلوب» كما نجد عند ريمون كينيو (كاتب فرنسي)، تمرين مدهش، لكنه غائب عن الجزءين التاليين (الثالث والرابع) واللذين جاءا بعنوان «اسكت، أرجوك» و«فيتامينات السعادة»، وهما جزءان لا يفترقان عما سبقهما، أي أنهما مجموعتان قصصيتان، تنحوان بدورهما إلى التفاصيل الدقيقة، لتكتبان الحدث من الداخل.
وبعيدا عن هذا الأسلوب – الذي يعود ليظهر فارضا نفسه عند العديد من كتّاب أميركا وأوروبا المعاصرين، مثلما فرض نفسه في الحقبة التي عاش فيها كارفر (توفي في أواخر ثماننينات القرن المنصرم، 25 أيار 1938 – 2 آب 1988) – نجد أن محتوى العمل الأدبي عنده يساهم بقوة في إبداع هذا المناخ الخاص والمتفرد جدا. إنه يرسم مناخات أميركا العميقة، البشر القليلي الحظ، «الخاسرين» (فيما لو استعرنا عنوان قصة من أقاصيصه)، الناس العاديين الذي يقعون أسرى لأوضاع، كان من المفترض أن تكون أوضاعا بسيطة وعابرة، إلا أنها تتحول على احدثا درامية، بالأحرى تراجيدية، بالنسبة إليهم بالطبع.
أبطال ريمون كارفر أشخاص تعساء، بيد أنهم يعرفون كيف يتركون بصماتهم علينا. ليسوا خبثاء، يصارعون طيلة الوقت كي يهربوا من أوضاعهم غير المحتملة، الدرامية التي يدخلون إليها بأقدامهم في بعض الأحيان ويقعون في شركها حيث لا مناص. قد يكون ذلك كله عائدا لحياة ريمون كارفر نفسه، إذ عرف – طيلة حياته – هذا البؤس السيكولوجي، والمالي، من هنا، حين يتحدث عن ذلك، نرى أن حديثه ناجم عن فهم عميق لهذه المسألة، عن «حنان» يقربنا من هذه الشخصيات ليتركنا نتماثل معهم.
من هذه النقاط، المتماثلة، نقرأ «موت سكوتي»، هذا الصبي الصغير الذي طلبت له ذات يوم، لتعود وتنسى الأمر، قالب حلوى بمناسبة عيد ميلاده، في اليوم التي صدمته فيه سيارة مسرعة. صاحب محل الحلوى، الذي كان يجهل الأمر، اتصل لمعرفة كيفية توصيل القالب، بيد أنه باتصاله هذا زعزع أوصال العائلة، وبخاصة أنه سأل عن أحوال الصغير. وإذا ما كانت هذه القصة تتحدث عن دراما فعلية، نجد في بعض أقاصيص كارفر «دراميات مختلفة» مثل قرار أل في أن يترك كلبته بعد لأي من أجل أطفاله وزوجته... ذاك الحب العميق بين شخصين مسنين لا يعرف أي منهما من هو الرجل أو المرأة، غرق ذاك الشخص البسيط في جنون أسماكه التي وضعها في المستنقع... الصعود الاجتماعي لشخص عادي أصبح حاكما حيث كانت أمه تختبئ منه على الدوام إذ كانت تخشى منه...
من قصة على قصة، ودائما عبر هذا الأسلوب المدهش، المازج بين الأفكار والملاحظات، نفهم في النهاية لمَ لا يزال ريمون كارفر يثير الكثير من الاعجاب عن قرائه.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد