الثّعالبي والنّقّاد الحداثيون.. التّناص بين «جوليا كريستيفا» و«الثّعالبي» والجرجاني

15-08-2011

الثّعالبي والنّقّاد الحداثيون.. التّناص بين «جوليا كريستيفا» و«الثّعالبي» والجرجاني

مع غياب المدارس النّقديّة العربيّة, واعتماد المهتمّين بالنّقد على النّظريّات والمصطلحات المستوردة لتحليل المُنتَج الإبداعي العربي يُثار تساؤل هام ومؤلم في الوقت ذاته, تساؤل مبعثه سبب ذلك الغياب, فهل يدرك النّقاد العرب ضرورة إنتاج نظريّة نقديّة محلّيّة, وقد تكون قابلة للتّسويق بهويّتها العربيّة إلى العالم كلّه؟ وقد لا يكون المنتج العربي مادّتها الوحيدة, وإنّما الأدب العالمي المترجم إلى العربيّة. وهل اطّلع النّقاد العرب بما يكفي على الموروث النّقدي العربي؟ وإذا تناولنا النّقاد الغربيّين الحداثيّين واعتمدنا المقارنة بين مُنتجهم النّقدي بما لدينا من موروث قديم لنقّاد عرب أغنوا العالم بأفكارهم ورؤاهم ندرك استفادة - تكاد تكون كلّيّة – للنّقّاد العالميّين من النّقّاد العرب القُدامى. ولعلّ أوضح مثال على ذلك ما أوردته «جوليا كريستيفا» من مقالات تناولت فيها ظاهرة التّناص الأدبي, وما تمّ من تسويق تلك المقالات مع صاحبتها لتصل إلى العالميّة, ما هي إلاّ جزء يسير ممّا ورد في تراثنا النّقدي حول الموضوع ذاته, وخاصّةً الجرجاني والثّعالبي, وقد يكون الثّعالبي أكثر من اهتم بظاهرة التّناص فأفرد لها أبحاثاً كثيرة تكفي لتؤكّد أنّ «جوليا كريستيفا» ما هي سوى قارئة جيّدة للثّعالبي الّذي ركّز على آليّة التّناص بوصفها الشّكل الّذي يوضّح مادّة التّناص ووظيفته ونوعه في وقت واحد.

وإذا كانت مواقف المُهتمّين بنقد الثّعالبي من النّقاد المحدثين قد تباينت بين من يرى غلبة التّعميم وافتقاد الموضوعيّة في نقده, وبين من رأى أنّه اعتمد تلمُّس المنهج النّقدي دون أن يُعطي أي حكم نهائي للنّصوص المدروسة, فإنّهم يُقرّون بفضله في الكشف عن الكثير من القيم المتعلّقة بشعر المتنبّي, وأنّه أخضع البحث في الظّاهرة الإبداعيّة لاتّجاهات عديدة تهدف إلى دراستها من خلال وحدة متكاملة داخليّاً, ومتفاعلة مع الظّروف المحيطة عبر آليّة ربطها بغيرها من الظّواهر, وتتبُّع النّواحي المشتركة بينها. ولعلّ التّقسيم البيئي ل «يتيمة الدّهر» كان فكرة هامّة وجوهريّة ارتبطت بالكيفيّة الّتي يمكن بواسطتها تحقّق الإبداع الأدبي. ‏

وما كثرة المؤلّفات الّتي تركها الثّعالبي وتنوّعها إلاّ دليل على تميّزه بالاعتدال فكراً وممارسة, وتخصّصه في مجالَي الأدب والنّقد, فقد ترك ما يزيد عن مئة مؤلّف بين مطبوع ومخطوط ومفقود ومنسوب. وما يميّز أعماله النّقديّة هي دراسة مختلف الجوانب الخاصّة بالإبداع, كعلاقة الأدب بمنتِجه, وبالظّروف التّاريخيّة والاجتماعيّة المحيطة, وبالمستويات الموضوعاتيّة والدّلاليّة واللغويّة في النّص وفي خارجه, وذلك بتركيزه على الحوار الّذي يقيمه النّص مع غيره من النّصوص, وقد اهتمّ الثّعالبي بالتّوجّه إلى النّقد التّطبيقي في وقت انصرفت فيه الغالبيّة إلى التّنظير. ‏

وإذا كان مفهوم الحداثة قد تحدّد في القرن الثّالث الهجري على يد الجاحظ والمبرد وابن قُتيبة من حيث تركيزه على فنّيّة الشّعر دون زمنيّته فقد بدأت تتعالى نبرات الخلاف والخصومة حول شعر أبي تمّام بوصفه محدثاً وشعر البحتري بوصفه محافظاً, وكان من نتيجة ذلك انتقال النّقد عند المتنبّي من الحديث عن الحداثة إلى الحديث عن شخصيّة المبدع ذاته والاشتغال بشعره, كما ارتبط الإبداع بفكرتي الابتكار والسّبق, والتّوازن ما بين المعنى واللفظ. ضمن هذا المناخ ظهر ما يسمى الآن بالتناص على يد الجرجاني الذي اعتُبر المنظّر الأول لمصطلح التناص وذلك حين طرح مفهوم السرقات الأدبية طرحاً مختلفاً. وقد تمكن الثعالبي أيضاً من إيجاد خلفية معرفية مشبعة وقادرة على المقارنة والتمييز بين المتشابهات من خلال سلسلة من الآليات المستدعاة لهذا الغرض. ‏

وطالما العلاقة مؤكدة بين الإبداع والنقد من حيث أن النقد ما هو سوى امتداد طبيعي للإبداع, أي أنه حركة موازية للفعل الإبداعي, إن لم نقل إنه إبداع ثانٍ, وما زالت الساحة النقدية حتى الآن تفتقد تعريفاً واحداً متفقاً عليه بين جمهور الباحثين حول اصطلاح النقد, وما محاولة تفسير العلاقة بين النص ومنتجه سوى سعي لفهم الخلفيات والظروف المؤثّرة في النص ذاته, وتشكيل معالم رؤية جديدة أكثر عمقاً وشمولاً. وربما يكون ذلك أحد المداخل النقدية إلى عوالم النص الإبداعي والنقدي. ‏

وحين يرى «رولان بارت» ارتباط النص بالقارئ, وإسهام القراءة في إعادة كتابة النص من جديد, هذا يؤكد على أهمية تفعيل الخط النقدي ليشكّل صلة وصل بين الكاتب والقارئ, وليستطيع أن يواكب الخط الإبداعي الذي لا يمكن أن يستوي في غياب النقد. وإذا كان النقاد العرب يمجّدون الحركة النقدية الغربية, فحريّ بهم أيضاً الالتفات إلى منجزنا النقديّ التراثيّ, ولا بأس عليهم حين يربطون ظاهرة التناص بالناقدة «جوليا كريستيفا» أن يتذكروا أن الثعالبي ذكر ما يقارب العشرين نوعاً للتناص. كل ذلك وأكثر يورده الناقد الدكتور حسن ابراهيم الأحمد من خلال كتابه بعنوان: «أبعاد النص النقدي عند الثعالبي» الصادر مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب. ‏

نصر محسن

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...