الشاشات اللبنانية على مشرحة النقد: وسائل إعلام أم صناديق بريد؟
التأكّد من مصادر الخبر قبل نشره، مهارة صحافيّة يتعلّمها طلاب كليّات الإعلام، في سنواتهم الجامعيّة الأولى. لستَ بحاجة إلى خبير أكاديمي في الصحافة لتعرف أنّه من الخطأ نشر خبر وفاة أربعة من المخطوفين اللبنانيين في أعزاز، من دون تأكيد المعلومة. طوال اليومين الماضيين، كانت الفوضى سيدة الموقف على الشاشات. فمن جهة، الهواء مفتوح لأخطاء المراسلين بشكل كاريكاتوري، ومن جهة أخرى تعاطٍ غير مسؤول مع الحدث، بلغة تقدّم السبق الصحافي والإثارة الجماهيريّة، على الحقيقة، والشفافيّة، والمصداقيّة، والأهم من كلّ ذلك الأخلاقيات المهنيّة .ويرى البروفيسور نبيل دجاني رئيس دائرة العلوم الاجتماعية والدراسات الإعلامية في الجامعة الأميركية في بيروت، أنّ التغطية الإعلامية اللبنانية «كانت عاطفيّة، وغير منسجمة، حتى أنّ الصحافيين بدوا كأنّهم لا يتمتّعون بأي ثقافة مهنيّة». وبرأيه فإنّ «الصحافي اللبناني تحوّل إلى أداة تهييج وليس إلى أداة لتقديم المعلومة. كأنّ المؤسسات الإعلاميّة تتبارى حول من يقوم بتهييج الشارع أكثر، ومن يغوص في الوحل أكثر». تعطي المحامية نادين فرغل صفوفاً جامعيّة في أخلاقيات مهنة الصحافة، وتقول إنّ ما شهدناه على الشاشات خلال اليومين الماضيين، دليل واضح على أنّ «كل الوسائل الإعلاميّة فقدت حسّ المسؤولية. إذ رأينا أخباراً ترمى على الشاشة من دون تفكير، وبغضّ النظر عما إذا كان ذلك الخبر قد يؤثر على سلامة الأشخاص المعنيين، أو على سلامة عائلاتهم».من جهتها، ترى الصحافية ندى عبد الصمد التي تعدّ لدراسة جامعيّة حول تعاطي الإعلام في لبنان مع الأحداث منذ مقتل رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري إلى اليوم، أنّ «وسائل الإِخبار تحوّلت بشكل واضح إلى وسائل تحريض». برأيها، فإنّ القنوات الأرضيّة اللبنانيّة فضّلت السبق الصحافي، على دقّة المعلومة، «لدرجة سمحت بتحوّل التغطية المباشرة إلى مسرحيّة مخيفة»، بحسب تعبيرها. «بعض المظاهر المسلّحة التي رأيناها على الشاشة، لم تكن لتخرج إلى العلن، لو لم تكن تعي أنّ هناك كاميرات ستنقلها بشكل مباشر». وتسأل عبد الصمد: «هل يحقّ للصحافي أن يلعب دور المحقّق، وأن يستجوب على الشاشة مخطوفاً مسلوب الحريّة والإرادة؟». وتضيف: «الإعلام يبدو كأنّه إعلام حربي، ينقل الرسائل بين الأطراف المتصارعة». وبرأي عبد الصمد، فإنّ الحريّة الإعلاميّة، والسبق الصحافي، لا يمكن أن يبرِّرا غياب المسؤولية الإعلاميّة. «البثّ المباشر أسس لديموقراطيات في أوروبا بعد سقوط جدار برلين، لكن لا يمكن أن يتحوّل البثّ المباشر إلى وسيلة كي يطلق عبره من يشاء تهديدات ». من جهته، يرى الأستاذ في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية أحمد زين الدين، أنّ وسائل الإعلام في لبنان تفتقد الاحتراف، وهذا ما ظهر بشكل جليّ خلال اليومين الماضيين. «المؤسسات لا تدقق في الخبر، وتفتح الهواء أمام صحافيين غير محترفين، أو محترفين لكنّهم يفقدون السيطرة تحت الضغط»، يقول. ويعطي زين الدين مثالاً عن إحدى المراسلات التلفزيونيات التي ناشدت السلطات التحرّك على الهواء مباشرةً، قائلاً إنّ التغطيات أخذت نبرة شبه وعظيّة. «بالمطلق، ليس من مهمة الصحافي وعظ أحد، بل تقديم المعلومة بعد تدقيقها، وتحليل أبعادها، وعدم تضخيم الأمور أو افتعالها». ويحيل زين الدين إلى التجارب الأوروبيّة حيث لا تزيد مّدة أي تقرير مهما كانت أهميّته عن دقيقة أو دقيقة ونصف.لا ترى ديما صابر أستاذة الإعلام في جامعة باريس الثانية سابقاً، وفي الجامعة الأميركية حالياً، أنّ تنظيم المهنة يحتاج إلى قوانين، قد تحدّ بشكل ما من حريّة الصحافة، بل على العكس. «كل ما نحتاج إليه هو ميثاق أخلاقي، يدفع الصحافيين مثلاً إلى التأكد من الخبر قبل نشره، وعدم الهرولة صوب الإثارة، وتلك معايير بديهية لا تحتاج إلى عقول أكاديمية لتعريفها». وترى صابر، وهي من مؤسسي مركز «آلت سيتي» المخصص لتدريب الصحافيين، أنّ الإعلام التلفزيوني التقليدي فقد مصداقيّته. «بوجود وسائل الإعلام البديلة، صار في إمكان المتلقي الحصول على المعلومة من مصادر متعددة. يجب على وسائل الإعلام التقليدية أن تدرك أنّ المتلقي ليس غبياً، ويمكن أن يميّز الحقيقة من المبالغات». وتسأل صابر: «هل يعرف المسؤولون عن غرف الأخبار كلفة للخبر العاجل؟ هذه العشوائية في نشر أي خبر في أسفل الشاشة تكلّفنا خسائر كبيرة».
أخلاقيات مهنة الصحافة، ليست سريّة. فإن ذهبت إلى صفحة «بي بي سي» على الإنترنت مثلاً، فستجد ميثاق شرف مهنياً وضعته الهيئة كدفتر تعليمات وشروط إن صحّ التعبير، يجب على العاملين فيها التزامه، تحت طائلة المسؤولية. وينطبق الأمر ذاته على كل وسائل التلفزيون الجماهيرية حول العالم، مروراً بقناة «الجزيرة» مثلاً، ووكالات الأنباء، والصحف. يصعب حصر مواثيق الأخلاقيات الصحافية، فمنها ما صدر مطلع القرن الماضي، تبعته شرعة ميونيخ 1971 التي طبّقتها وسائل الإعلام الأوروبيّة، قبل أن يصدر ميثاق موحَّد عن «الأونيسكو» العام 1983. وبقيت المواثيق تتطور لتتناسب مع تحديات العصر والإعلام الرقمي. وكلّ تلك المواثيق، تتفق على عناوين عريضة وأبرزها الحريّة طبعاً، والاستقلاليّة، وعرض الحقيقة، والشفافية، والتأكد من مصادر الخبر، واحترام خصوصيّة الأفراد، وعدم اللجوء إلى وسائل ملتوية للحصول على المعلومة، وعدم الخلط بين مهمة الصحافة ومهمّة شركات الإعلان، إضافةً إلى تصحيح كلّ معلومة تنشر وتثبت عدم دقّتها، وعدم تعريض حياة المصادر للخطر، وعدم تعريض حياة الناس محور التحقيقات الصحافيّة للخطر. هذا بشكل عام، ولكن إن دخلنا في التفاصيل، قد نقع مثلاً وكالة أنباء تحدد لصحافييها الحدّ الأقصى لسعر الهدية التي يمكن أن يتلقوها، كي لا تعدّ رشوةً. وقد نقع على وسائل إعلاميّة تطرد مراسليها إن هم استخدموا تعابير تحرّض على العنصريّة، أو على العنف ضدّ المرأة، أو على التفرقة بين الأديان.
السفير: سناء الخوري
إضافة تعليق جديد