الشعر غير مقبول وغير أخلاقي إن لم يحمل أثراً من الواقع

13-07-2011

الشعر غير مقبول وغير أخلاقي إن لم يحمل أثراً من الواقع

بدون أدنى شك، يشكل الشاعر الفرنسي أندريه دو بوشيه (1924 – 2011) واحداً من أكثر الشعراء الإشكاليين الذين ظهروا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في فرنسا. يمكن بالتأكيد إضافة اسم إيف بونفوا وجاك دوبان، ليشكلّ هذا الثلاثي حالة شعرية حقيقية، عرفت كيف تُنوع، حالة الشعر الفرنسي بكلّ تفاصيله، وبخاصة دوبوشيه الذي عرف كيف «يُجسد الشعر بكل حيويته القلقة».
يعود دوبوشيه ليحضر اليوم (وهو الذي لم يغب بعد عن الحركة الشعرية الراهنة، عبر الاحتفاء بمرور عشر سنوات على رحيله، حيث جمعت له دار «Le bruit du temps" كتابين يحويان على جزء كبير من أعماله التي تعود إلى مرحلة الشباب. الأول بعنوان «Aveuglante ou banale " وهو يتألف من مقالات وأبحاث حول الشعر تعود إلى فترة 1949 – 1959 وهي مقالات تسمح لنا بالوقوف جليّا على الأفكار والتأملات الشعرية التي كان يطلقها الشاعر الفرنسي والتي وسمت جزءا كبيرا من شعر الخمسينيات في فرنسا. مئات الصفحات، تأتي لتعبر لنا عن قراءته المعمقة والمكثفة لشعراء من مثل بودلير ورينيه شار وفرانسيس بونج. وإن شكل هؤلاء الثلاثة شيئا في حياة الشاعر، فإننا نجدهم يشكلون الإرث الذي اتكأ عليه أندريه دو بوشيه لكي يبحث عن «نفسه»، أي عن جملته ومناخاته وفضاءاته التي كونها بكل جزيئاتها. ثلاثي شعري كان يشكل له أفقا ثلاثي الأبعاد يتراوح بين «الحداثة الثائرة والمنتصرة» (بودلير) والكتابة المشغولة بالحرب (رينيه شار) و»الانحياز للأشياء» (فرانسيس بونج). فالشعر بالنسبة إلى دوبوشيه يتراءى له بأنه غير مقبول وحتى غير أخلاقي إن لم يحمل في طياته «نسبة من الواقعية».
لكن إن كانت هذه الدراسات تسمح لنا بشيء، فهي تفيدنا عن «مفاجأة» ما، لأنها تقودنا أكثر لكي نقبض، ومن الداخل، على هذا الحسّ العميق لبنوة شعرية، لم يتوقف عن تردادها على مرّ صفحات هذا الكتاب، وهي بنوته الشعرية لفيكتور هوغو الذي كان يعتبره «المرجع المطلق» إذ كان فنه، فن هوغو، يكمن في «تخطي حياته عبر القصيدة». لكن بالتأكيد، ثمة مرجعيات أخرى، كونت هذه الكتابة عند دو بوشيه، لعل أبرزها بيير ريفردي الذي اعتبره الهدوء وسط العاصفة، وذلك من خلال طريقته «الشخصية جدا في إيجاد الوحي من دون أن يدع أي شيء يظهر» ويضيف الشاعر قائلا: «ليس علينا أن نقول سوى ما نشاهده، ما نعرفه، ليتم اختراع كل شيء».
عن الظل
يقدم إلينا الكتاب الثاني، الصادر في الوقت عينه عن الدار ذاتها، بعنوان «Une lampe dans la lumiere aride " كتابا مخالفا بالشكل، إذ أنه ليس أبحاثا بل مجموعة من الملاحظات، أو الدفاتر اليومية، التي كان يسجل عليها دوبوشيه بعض الأفكار، وهي تعود إلى الفترة عينها تقريبا (1949 – 1955). سبع سنوات من «الملاحظات الشعرية اليومية»، تسمح لنا، في الواقع، أن نكتشف «كثافة هذه الحياة التي تتضاعف». ففيها نكتشف آثار إقامته في الولايات المتحدة: سنوات التشكل والاكتشافات. بقي هناك طيلة هذه السنوات وهو ينتظر العودة إلى فرنسا التي غادرها «مرتعبا في عزّ سنوات «السديم» عام 1940، أي في بداية الحرب العالمية الثانية.
ثمة مفاجآت أخرى، إذا جاز القول، تتبدى لنا عبر هذه الملاحظات: شهيته الكبيرة للحياة، اقترابه من الشيوعية، محاولته التعاطي مع التحليل النفسي، السعادة المطلقة التي أحس بها بعد زواجه من تينا جولاس، لكن الكتاب يضيء لنا بخاصة هذه الطريقة العنيدة التي بدأت بنسج خيوطها حوله والتي تكمن في ابتعاده التدريجي عن الحياة العامة، ليدخل «طوعاً في هذا الفضاء الحميمي». ففي عام 1952، وهي السنة التي توفي فيها والده، يحدد دوبوشيه حدسه الشعري، بهذه الطريقة: «أريد أن أقول عن الأشياء الغريبة التي تخرج من فم الطبيعة/ العبارة الغريبة للبساطة/إنها ليست بسيطة أبدا إن لم نتآلف معها بشكل مطلق، إن لم نشكل معها جسدا وروحا من الداخل».
في مجموعته الشعرية الأولى «Dans la chaleur vacante " يستدعي أندريه دوبوشيه، و»بكلماته الخبيئة» أحداث الحياة، إلا أنه «يوقف فيها الينابيع الحية لفضاء مهمل»: «أعير نفسي للأحجار. أتقدم والظلال على كتفيّ». هذا ما يكتبه الشاعر القلق من الالتصاق بالواقع. من هنا نجد أن القصائد الكبرى العائدة إلى فترة النضوج تتزاوج مع خطوات الشاعر فوق دروب الأرض. هذه الفكرة، نجدها حاضرة في مجموعة أخرى بعنوان «Ici en deux " التي تعيد منشورات غاليمار، سلسلة شعر، إصداره للمناسبة. شعور يترجم وبدقة كبيرة هذا الإحساس لأن يشكل جسداً واحداً مع العناصر المتنوعة.
في عام 1983، يعود دوبوشيه ليتحدث عن مساره الشعري الذي خطه، ليتحدث عن العالم الذي انهار تحت قدميه مع «إفلاس سنة 1940»، ويحدد أكثر حين يقول بأنه يعتقد أنه يكتب كي يعود ليجد «علاقة مفقودة». لكن إن دلت هذه الجملة على شيء، فهي تدل على إقرار صريح عن «الوهم الرزين» الذي هيمن على السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية. إنها أيضا جواب، من بعيد، لرينيه شار، الذي ذهب مع زوجة دوبوشيه، التي تركت طفلتها لسنين طويلة.
ضد الشعر الذي «يتحدث بصوت عال» والذي «لا يخون سوى نفسه»، ضد «هيمنة الفعل والكلمة»، يفرض عمل دوبوشيه الشعري قوة الصمت كما فضيلة الكلمات. إنه «مثل زجاجة في بحر ألقيت كي تعانق الشباك». كتابان، إن قدما لنا أي شيء، فهما يقدمان درساً في الشعر يتسرب عبر الكلمات.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...