الصين في مواجهة الغرب: «سور فولاذيّ» وتحالف متين مع روسيا
تعليقاً على استراتيجية الأمن القومي الروسية الجديدة، التي صادق عليها الرئيس فلاديمير بوتين يوم السبت الماضي، رأت صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية الرسمية أن «محاولات الولايات المتحدة لإبعاد روسيا عن الصين قد فشلت مجدّداً». في الحقيقة، كانت هذه المحاولات محكومة بالفشل لأن إدارة جو بايدن غالت في الجهر بعداء مسعور لموسكو، ولم يتردّد رئيسها بوصف نظيره الروسي بـ»القاتل»، فيما ضربت عرض الحائط بنصائح العديد من الخبراء حول ضرورة السعي إلى كسب ودّها لتستطيع واشنطن التفرُّغ للتصدي لصعود بكين. الغطرسة الراسخة في أذهان أقطاب هذه الإدارة، وما يترتّب عنها من عجز فعلي عن إدراك الواقع، دفعتهم إلى الاعتقاد بإمكانية استمالة روسيا بمجرّد تقديم بعض الوعود البرّاقة لها. لم يَعِ هؤلاء، حتى اللحظة على ما يبدو، أن القناعة التي باتت سائدة في أوساط القيادتَيْن الروسية والصينية على حدٍّ سواء، هي استحالة التوصّل إلى تفاهمات شاملة وثابتة مع الغرب الذي يكرههما لما «هما عليه، لا لما تفعلانه».
قناعةٌ عزّزها سيلٌ من المواقف الرسمية الغربية، ومن الدراسات والأبحاث الصادرة عن معاهد العصف الفكري في دول المركز الإمبريالي، المتدفّق على مرّ السنوات الماضية. الإعلان من قِبَل الرئيس الصيني، شي جين بينغ، عن أن بلاده شيَّدت «سوراً فولاذياً» لصدّ أيّ عدوان أو تآمر غربي عليها، وعقيدة الأمن القومي الروسية الجديدة، والاتجاه إلى تمتين الشراكة بين البلدين، ليست إلّا نتائج مباشرة لهذه القناعة.
اكتشاف «حقيقة» الشيوعية الصينية
وفق سردية إدارة بايدن الإيديولوجية، فإن أبرز التهديدات المستجدّة للنظام الليبرالي الدولي، هو ذلك المتمثّل بالقوى «التحريفية» كالصين وروسيا، أي الدول «الشمولية» المعادية للديمقراطية ولقيمها، وفي مقدِّمتها حقوق الإنسان، والعاملة على خلْق الظروف المناسبة لتغيير هذا النظام، بما ينسجم مع قيمها ومصالحها. احتواء صعود القوّة الصينية الصاعدة على المستوى الاقتصادي والاستراتيجي يصبح، في هذه الحالة، دفاعاً عن الديمقراطية قبل أيّ اعتبار آخر! غير أن مراجعة التحليلات المنشورة في الذكرى المئوية لتأسيس «الحزب الشيوعي الصيني»، في مجموعة من الدوريات الغربية، المتخصّصة بالشؤون السياسية والعلاقات الدولية، والتي تعكس آراء قطاعات وازنة من النخب الفكرية والسياسية، تكشف الخلفيات التاريخية العميقة للعداء للصين المعاصرة. ففي مقال في دورية «فورين بوليسي» الأميركية بعنوان «الحزب الشيوعي الصيني كان قومياً على الدوام»، اعتبر روش دوشي، المدير السابق للمبادرة الاستراتيجية حول الصين في معهد «بروكينغز»، أن وحدة الصين واستقلالها وتعزيز دورها الدولي مثّلت جميعها أهدافاً ثابتة لهذا الحزب منذ تأسيسه. يقول دوشي إن «الحزب الشيوعي الصيني كان حزباً قومياً طوال قرن من الزمن. قد يكون هذا الأمر محطَّ سجال اليوم، خاصّة بين من يعتقدون بأن تركيزه على القضايا القومية هو مجرّد وسيلة للاحتفاظ بالسلطة، بعد تراجع جاذبية الإيديولوجية الشيوعية. لكنّ الواقع أكثر تعقيداً بكثير. التوجّهات القومية للحزب هي جزء من نهج تاريخي طويل الأمد يربطه بالأنوية القومية التي تشكَّلت في أواخر عهد سلالة كينغ التي حكمت الصين».
على المقلب اليساري، رأى جان لوي روكا، الأستاذ في معهد العلوم السياسية في باريس، في مقال في العدد الأخير من شهرية «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية، بعنوان «مِن ماو تسي تونغ إلى شي جين بينغ، حزب للإحياء القومي»، أن «الحزب الشيوعي»، وعلى رغم إظهاره مرونة تكتيكية بالغة، لم يَحِد أبداً عن غايته المركزية: استعادة أمجاد الصين. وبحسب روكا، فإن «الحزب بقي وفيّاً لمثل بدايات القرن العشرين الثورية، ونجح في تحديث البلاد، وفي تحسين مستويات حياة قطاع لا يستهان به من سكانها، وفي تعزيز مِنعة الأمّة. ينبغي عدم البحث عن أسباب أخرى لتفسير الشعبية التي يتمتّع بها... اليوم، لا يهمّ في الصين إن كانت الفوارق في الدخل هائلة طالما أن الجميع يستطيعون الوصول إلى درجة من الرخاء المعقول، وأن البلاد في طور القضاء على الفقر. بالنسبة إلى قسم عظيم من السكان، هذا الوضع يبرّر إيلاء الأولوية للمصالح القومية وللوحدة على ما عداهما». يتّهم الخبير الفرنسي الشيوعيين الصينيين بإعادة صياغة النظرية الماركسية لتتلاءم مع مشروعهم القومي طوال مسيرتهم السياسية. هذا النجاح في تحرير بلد بحجم قارة من الاستعمار والهيمنة الغربيَّيْن، وبناء دولة مركزية تمكّنت من إطلاق نهضة قومية جعلت من الصين قوةً دولية من الصف الأول هو المحرّك الدفين للأحقاد الغربية ضدّها.
قطيعة روسية مع الترهات الليبرالية
تضمّنت استراتيجية الأمن القومي الروسية، إضافة إلى ما أُعلن من تطوير للقدرات العسكرية النوعية، قطيعة فكرية - سياسية مع مفاهيم ومفردات السردية الليبرالية الغربية التي زخرت بها سابقتها الصادرة سنة 2015. يشير ديمتري ترينين، مدير مركز «وقفية كارنيغي» في موسكو، في مقال على موقعها بعنوان «استراتيجية الأمن القومي: بيان لعصر جديد»، إلى أن المجابهة المحتدمة بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، سيكون لها دور حاسم في رسم معالم المستقبل العالمي. يلفت ترينين إلى أن الوثيقة الجديدة «تحوي إشارات واضحة إلى وجهة مفهوم السياسة الخارجية المستقبلية. الولايات المتحدة وعدد من حلفائها في الناتو يُصنَّفون رسمياً على أنهم دول غير صديقة. تراجعت الأهمية المعطاة للعلاقات مع الغرب، بينما وصفت الشراكة مع الصين والهند على أنها استراتيجية... تركيز كبير على دور المؤسسات الدولية غير الغربية كمنظمة شنغهاي للتعاون، والبريكس... إضافة إلى ذلك، فإن الانتشار العسكري للولايات المتحدة وكذلك شبكة تحالفاتها، وشركات الإنترنت العملاقة المتمركزة فيها، والتي تحتكر الفضاء الافتراضي، وهيمنة الدولار على الصعيد العالمي، عُرفت جميعها باعتبارها أدوات لاحتواء وإضعاف روسيا». حدّة اللهجة المعتمدة في الوثيقة تُترجِم واقعاً، القناعة المشار إليها سالفاً، أي استحالة التوصّل إلى تفاهمات نديّة وعادلة ودائمة مع الولايات المتحدة، وأن البديل، بالنسبة إلى الدول غير الغربية المستهدَفة باستراتيجيات الاحتواء والحصار والضغوط الأميركية، هو تطوير شراكاتها في حقبة ما بعد الغرب، كان وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أوّل مسؤول رسمي دولي يعلن عنها قبل 3 سنوات، في «قمّة الأمن والتعاون» في ميونيخ.
الأخبار
إضافة تعليق جديد