22-02-2018
الطب الشرعي في سورية على وشك الانقراض
مع وصوله إلى عامه الرابع في كلية الطب البشري بجامعة دمشق، يدرس علي أحمد الخيارات الممكنة والمحتملة للاختصاص الذي سيتابعه في سنوات الدراسة العليا، ويرى أن طب التخدير أو الطب العام هما الاختصاصان الأفضل والأنسب له.
ولدى سؤاله عن احتمال أن يتابع دراسته في مجال الطب الشرعي، لم يبدِ أحمد أي اهتمام بهذا التخصص، الذي وصفه بأنه “الوحيد غير المرغوب بين الطلاب، نظراً لآفاقه المستقبلية التي لا يمكن أن تكون مغرية بأي حال من الأحوال؛ فالطبيب الشرعي في سوريا اليوم أشبه بموظف حكومي، يقضي نهاره وليله بين الجثث، ويتقاضى راتباً لا يكفي حتى مصروفه الشخصي”.
ورغم محاولات المسؤولين الإداريين في الكلية حث الطلاب على التسجيل في قسم الطب الشرعي، والإعلان عن الحاجة الماسة لذلك عاماً بعد آخر، وأيضاً التوعية لأهمية هذا التخصص، عن طريق تدريس بعض المواد ذات العلاقة بأصول الطب الشرعي وأخلاقيات وآداب الطب، إلا أن الاندثار يبدو اليوم المصير الذي ينتظر الطب الشرعي في سوريا، إن استمر الحال على ما هو عليه.
مشاكل وأشجان
واقع يؤكده المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا الدكتور زاهر حجو، حيث تحدث عن “احتضار هذا الاختصاص بالغ الأهمية، والذي يبرز دوره بشكل خاص في فترات الحروب والنزاعات، كالتي تعيشها سوريا اليوم، فهو قلم العدالة التي نحتاج لأن نعيشها ونمارسها بشكل يومي”.
هذا الاحتضار يبرز على عدة مستويات، أهمها النزف البشري للكوادر المتخصصة في الطب الشرعي، حيث غادر البلاد أكثر من 70 بالمئة من الأطباء الشرعيين، ولم يبقَ سوى 56 مختصاً، معظمهم ممن تجاوز الخمسين من عمره، “فلا دماء جديدة ترغب اليوم في خوض غمار هذا التخصص الذي لا يتمتع بدعم حكومي ولا مكانة اجتماعية مرموقة كباقي التخصصات”.. الطبيب الشرعي لا يقدم خدمات صحية، وإنما يسخّر معارفه لخدمة وزارتي العدل والداخلية، مع تعامله مع كافة أنواع الحالات الناتجة عن حوادث السير وإصابات العمل والمشاجرات والجرائم الجنسية وحتى أخطاء الأطباء، إضافة لفحص الجثث بهدف تحديد أسباب وزمن الوفاة والأذيات التي تعتبر من أهم الأدلة في حالات الجرائم وتساعد في الوصول إلى الفاعلين المحتملين.
وبالطبع تتضاعف ساعات عمل الأطباء الشرعيين خلال الحرب، حيث يضطرون في بعض الحالات إلى فحص عشرات الجثث بشكل يومي لإصدار التقارير الطبية المطلوبة. “قبل الحرب يمكننا أن نتحدث عن عمل الطبيب الشرعي بنسبة 8 بالمئة فقط مع الأموات، و92% مع الأحياء. في حين تتغير هذه النسبة في الحرب ليبلغ معدل تعامل الطبيب مع الجثث حوالي 25% من كامل عمله”.
نتيجة لذلك، لا يعمل الطبيب الشرعي اليوم سوى في إطار الوظيفة الحكومية ليتقاضى بذلك راتباً لا يتجاوز في أحسن الأحوال 35 ألف ليرة سورية، وليكون شأنه في ذلك شأن أي موظف حكومي دون أي خصوصية، وهو ما يراه حجو أمراً غير مقبول، “فلا يعقل لمن درس أكثر من عشر سنوات في واحدة من أهم الكليات العلمية، أن يجد نفسه في نهاية المطاف مجرد موظف دون أي امتيازات”.
إضافة إلى ذلك، يعتبر الطبيب الشرعي الأكثر عرضة للمشاكل الصحية والأخطار الأمنية، حيث يقضي يومه بين جثث قد تحمل أمراضاً وإنتانات غاية في الخطورة.
المستوى الثاني من معاناة الطب الشرعي في سوريا، يتمثل في خروج العديد من المنشآت عن الخدمة بسبب الحرب، إضافة إلى صعوبة الحصول على الكثير من المعدات والمواد وتجهيزات المخابر، نتيجة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وهي تجهيزات لم تكن بأحسن أحوالها حتى قبل الحرب، فوفق حجو، “مخابر السموم والـDNA والتي تأسست منذ حوالي عشر سنوات لم تكن سوى مواقع شكلية لم تتفعل بشكل حقيقي”.
إجراءات جديدة
يشير الدكتور حجو إلى مجموعة من الإجراءات التي بدأت الهيئة العامة للطب الشرعي بتطبيقها لرفع سوية العمل وحماية العاملين، وتوفير أفضل شروط العمل لهم.
فالهيئة التي استحدثت عام 2014 وتفعلت بشكل فعلي عام 2017 لتصبح المرجعية الوحيدة لكافة الأطباء الشرعيين في سوريا، بدأت اليوم بتجهيز المخابر اللازمة، إضافة إلى حقائب متكاملة ولباس موحد سيتم توزيعها على كافة الأطباء الشرعيين.
كما تتعاون الهيئة مع عدد من المنظمات الدولية لحماية العاملين في هذا المجال واتخاذ الاحتياطات الصحية اللازمة حفاظاً على سلامتهم، كتزويدهم بألبسة واقية ونظارات تقيهم احتمال الإصابة بأي عدوى أثناء العمل.
ما المطلوب اليوم؟
يطالب حجو بمزيد من الاهتمام بالأطباء الشرعيين في سوريا، لئلا يتحول واقع هذا الاختصاص بعد سنوات إلى ما يشبه الكارثة، “فإن استمر الوضع على ما هو عليه، لن يبقَى في سوريا أي طبيب شرعي بعد أقل من عشرين عاماً”.
أولى الخطوات الممكنة تتمثل في زيادة الحوافز المادية؛ مراعاة لخصوصية هذه المهنة التي لا يمكن لممارسها مزاولتها في عيادة خاصة.
يرى حجو أيضاً أهمية الحصانة القضائية للأطباء الشرعيين، “فالطبيب الشرعي يتعرض للمساءلة القانونية في حال ارتكاب أي خطأ حتى لو كان غير مقصود، وقد تصل تلك المساءلة حد السجن. أخطاء الطبيب الشرعي تبقى موثقة رغم إمكانية اختلاف الرأي في بعض القضايا بين طبيب وآخر. نتمنى حصول الأطباء الشرعيين على حصانة ولو جزئية تحميهم من ضياع محتمل لمستقبلهم”.
يشير الطبيب أيضاً إلى ضرورة تنسيق العمل الطبي في ما يخص الحوادث المتعلقة بالحرب في سوريا اليوم، ويأسف لعدم وجود فريق أزمة طبية، يفترض أن يشكله رئيس الحكومة من فنيين واختصاصيين في مقدمتهم الأطباء الشرعيون للتعامل مع حالات، كانتشال الجثث، والتي تتطلب طرقاً فنية خاصة للحفاظ على الأدلة.
ويضيف حجو في هذا الصدد: “حصلنا على تدريبات وتبادل للخبرات والمعارف مع العديد من البلدان التي شهدت حروباً مثل قبرص والصومال، حيث اطلعنا على تجاربهم في مجال انتشال الجثث من المقابر الجماعية. وشكلنا فرقاً للاستعراف على أعلى درجة من المهنية، وللأسف ما زالت هذه المهام مناطة بفرق غير مؤهلة دون استشارتنا، رغم أننا نعرض خدماتنا. لكن ما زال التنسيق غائباً في هذا المجال”.
للمحامين رأي آخر
تحدثتنا مع بعض المحامين للوقوف على الرأي القانوني في ما يخص منح الأطباء الشرعيين بعض الحصانة القانونية أثناء عملهم.
أحد المحامين، فضّل الحديث دون اسم، يرى أن إعطاء هذه الحصانة ليس بالأمر السهل والذي يمكن تطبيقه دون حسابات مسبقة، “فلا يمكننا اليوم أن نمنح الحصانة الكاملة للأطباء الشرعيين، الأمر الذي سيفتح باب الفساد والرشاوى بهدف تغيير التقارير الشرعية لصالح موكلين معينين على حساب آخرين”.
ويرى المحامي أن أحد الحلول الممكنة يكمن في إلزام عرض التقارير الطبية على لجان مختصة بعد إصدارها من قبل الطبيب الشرعي؛ ما يضمن النزاهة وعدم ضياع الحقوق، وهو ما يحدث حقاً في بعض الحالات وبناء على طلب المتداعين في قضايا معينة.
بكل الأحوال، يبقى تحفيز الأطباء على الاختصاص في مجال الطب الشرعي مطلباً لا يبدو أنه يحتمل التأجيل، فأي تجهيزات ومعدات ومخابر لا معنى لها في ظل غياب العنصر البشري واندثاره المحتمل في المستقبل القريب.
“رغم تفاؤلي بجهود الهيئة العامة للطب الشرعي اليوم، خاصة على المستوى الفني والعلمي، إلا أنه ينبغي عليّ القول بأننا، إن لم نحصل على مساعدة حكومية مباشرة وفعالة، فكل جهودنا ستذهب سدى”. يقول حجو ويضيف: “في وقت تحتاج فيه سوريا لأكبر عدد ممكن من الأطباء الشرعيين مع زيادة نسبة الجرائم المجتمعية وجرائم الحرب، يدخل هذا الاختصاص وبكل أسف مرحلة الاحتضار والموت، ولا بد لنا من إنقاذه”.
المصدر: صحيفة الأيام
إضافة تعليق جديد