المتنبي الكوفيّ: المُتولِّهُ بحلب

10-10-2016

المتنبي الكوفيّ: المُتولِّهُ بحلب

لم تكن الكوفة مدينة قليلة الشأن في القرن العاشر الذي ظهر فيه المتنبي (915م – 965م). كانت ثاني الحواضر التي أقامها المسلمون في المنطقة الأقرب لقرى السواد، وفي قلب طرق المواصلات، والتواصلات الثقافية بين الجزيرة العربية وفارس ومدن الشام. كانت أحياؤها مزيجاً من عناصر بشرية ولغوية ودينية شتى، وإنْ غلب العرب على حاضرتها، وحضر الآراميون المسيحيون على أطرافها. ولعلّ اسمها تحوير لاسم (كوثا) الآرامية كما يقترح إبراهيم السامرائيّ، أو (كوبا) حسب القدامى.
تأسست فيها بين القرنين السابع والعاشر الميلاديين، بسبب ذلك التنوّع، بعض من العمارات الفاتنة، مثل مسجد الكوفة وقصر الإمارة، وكان ازدهارها الاقتصادي قد جعل منها مصدراً لدعم اقتصاديات الحروب المستعرة، وموضعاً للجدل الفقهيّ والعقليّ، واللغويّ مثل مدرسة الكوفة.
في عصر المتنبي، الكوفيّ، تفككت وحدة الدولة العباسية، اشتدّ الصراع السياسيّ، وظهرت حركات راديكالية كالقرامطة. وكانت بلاد الشام تتعرّض لهجمات الروم: «وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ ـ فعلى أي جانبيك تميلُ» كما خاطَبَ سيفَ الدولة، في الظاهر، مناجياً نفسه في الغالب.
سَكَنَ المتنبي في حلب عشر سنوات، وهي ليست بالفترة القصيرة مقارَنةً بعمره السريع. نعرف أن داره كانت تقع قرب قلعة حلب، وأنها من طابقين، بعدد من الغرف متوسطة الحجم، أبوابها من الخشب وتعلو نوافذها القناطر. يشير المتخصّصون السوريون أنها هُدمت ثلاث مرات: في الأعوام، 962م، و1260م على يد هولاكو (الذي لم يشهد المتنبي تدميره للعراق عام 1258م)، و1400م على يد تيمورلنك، وكان يُعاد بناؤها كل مرة بالحجارة نفسها، كأنَّ علاقة المتنبي بحلب تأبى الاندثار.
تَولَّهَ المتنبي بحلب. الإشارات المبثوثة في ثنايا أشعاره، صريحة. يُرْمَز للمدينة في أحد أبياته بهيئة امرأة بكامل زينتها:
«وعدتَ إلى حلبٍ ظافراً ` كعود الحُليّ إلى العاطل». يذكر المعري في (معجز أحمد) أن «العاطل التي لا حُليّ عليها، يعني أن حلب عُرّيتْ عن زينتها لما فارقتها، فلما عدتَ إليها ظافراً عادت زينتها، كالحلي إذا عاد للعاطل». والاستعارة (كعود الحُليّ إلى العاطل) استوقفت قرّاء ونقاد الشعر يومها.
ثم أن معارك حلب مع الروم زمن الحمدانيين، بدتْ وكأنّها معارك المتنبي الشخصية، فهو القائل: «على الفرات أعاصيرٌ وفي حلبٍ ـ تَوَحُّشٌ لمُلْقى النصر مقتبلُ». والقائل: «كلما رحبت بنا الروض قلنا ـ حلب قصدنا وأنت السبيلُ». أما زال حالنا الراهن (حلب قصدنا) و(على الفرات أعاصيرٌ)؟
 هناك أمرانِ جعلا المتنبي يتولّهُ بحب المدينة: الأول طابعها الحضريّ والاقتصاديّ المُشابِه لطبيعة مدينته الكوفة: لقد أحبّ المتنبي علاقات المدينة، وتنوّعها الحضاريّ (الإسلاميّ ـ المسيحيّ). ونظنّه من عشّاق المدن، وليس ريفية الأرياف أو قسوة البداوة، وإنْ زَعِمَ خلاف ذلك، تلبية لتوقعات جمهورِ ونقادِ الشعر يومذاك: «ما أوجه الحَضَرِ المُستحْسَنات به كأوْجه البدويات الرعابيبِ – حُسْن الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ، وفي البداوة حُسْنٌ غير مجلوبِ». البيتان بالأحرى وصفيان، ومُقالان من مسافة اتّخذها المَدينيّ العارف بهذا وذاك. المتنبي في شعره متأمّل للريف، وقادر على تقديم عبارةٍ من قبيل (ولي من نَداكَ ريفٌ ونيلٌ)، كأرستقراطيّ بل كإقطاعيّ، وليس كفلاح.
الثاني سياسيّ: شعوره بالغيظ من هجوم الروم على بلاد الشام. لا نعرف شاعراً معاصراً للمتنبّي تَحدّث عن (الروم) قدر ما فعلَ. وليس ذلك صدفة، ولا تصعيداً لصورة أبي فراس مُحارِب الروم. استدعاؤه لملوك بيزنطة (الدمستق، ولد الفقّاس، قسطنطين، ابن لاون..)، ليس فقط محاولة لتقديم صورة مثالية لبطله المحليّ، إنما كانت تعبيراً عن التصاق الشاعر الكوفيّ بالمشكل الحقيقيّ الذي تعرّضت له بلاد الشام حينها، من موقع قريب من الأحداث، في حلب.

شاكر لعيبي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...