المجتمعات العربية و«البَدْوُلوجْيا»
ليس من السهل دراسة البنى الاجتماعية العربية من زاوية سوسيولوجية، ورغم أن عدداً من الباحثين العرب قاربوا المجتمعات العربية المعاصرة بالنقد والتحليل، وفي طليعتهم الكاتب السوري حليم بركات، سواء في دراسة طبيعة الأنساق البطركية أم في التوليفة المجتمعية الهجينة التي تجمع ما بين القديم والحديث؛ لكن ثمة إشكالية أساسية، شكلت عماد الأطروحات الحديثة في العلوم الاجتماعية، يمكن وضعها تحت عنوان البداوة المتجذرة، سياسياً واجتماعياً وثقافياً ودينياً.
وقد يسأل قارئ المقال ما معنى البدولوجيا؟ هذا المصطلح الجديد استعرناه من عالم الاجتماع خليل أحمد خليل، وقد عالج أبعاده في كتابه الصادر حديثاً عن دار الطليعة «لماذا يخاف العرب الحداثة؟ بحث في البدوقراطية»؛ بحيث تُقال البدولوجيا عن الايديولوجيا البدوية، كثقافة عامة تشمل في آن عرب البوادي والحواضر، وتشكل محركاً لسلوك العرب في اتجاه ماضيهم وتراثهم الاعتقادي؛ كما تُقال كما يعرّفها خليل عن الشبكة الاعتقادية التي يصدر عنها نسيج اجتماعي مزدوج: قبلي/ حضري، ومنها ينبثق حكم الواحد للمتعدد.
والحال ما هي المكوّنات التي ترتكز عليها الايديولوجيا البدوية (يمكن العودة الى أطروحة خليل أحمد خليل من أجل التعرف على أهم الإشكاليات التي درسها ومن بينها إشكالية التقوم العربي) في العالم العربي الذي لم يحقق حتى اللحظة تصالحه مع الحداثة والعلم والتمدين؟
تقوم المجتمعات العربية على نمطين متناقضين، الأول يقبع في البنى القبلية، والثاني ينهض من القديم ويحاول تحديثه على مستوى المحركات المادية، بمعنى أن هناك مزيجاً انفصامياً بين القبلي والمدني، مع غلبة واضحة للثقافة القبلية على الثقافة المدينة، ويتضح هذا الخلط في الترييف البنيوي الذي يسيطر على المدن العربية المفتوحة في الغالب؛ والترييف يؤشر الى دلالات مختلفة، من بينها: تمسك العائلات العربية بأنماطها التقليدية، وتهميش المرأة، وسيطرة المتخيل الأسطوري، وصحيح أن هذه العائلات ما عادت عائلات ممتدة خصوصاً في المدن، لكن هذا لا ينفي تجذر حقل المفاهيم التقليدية في تركيبتها، كالمرجعية العليا للأب والموقف من المرأة وتربية الطفل على التبعية، حتى وإن اكتسبت مواصفات التمدين الخارجي.
سياسياً تبدو الثقافة البدوية أو البدولوجيا أوضح، إذا ما تمت مقاربتها من أنماط الحكم السائدة في المجتمعات العربية، فالأنظمة العربية التي نشأت بعد مرحلة الاستقلالات لم تستطع بناء دولة حديثة، كما لو أن هناك مقاومة تاريخية، بحيث يمكن أن نتحدث عن نمط من البداوة السياسية، أو «مجتمعات اللادولة». ثلاثة نماذج تسيطر على أنواع الحكم في العالم العربي: الطائفية السياسية، الملكية/ القبلية، حكم الحزب الواحد، وهو الأكثر انتشاراً في الأنظمة العسكرية. وهنا لا بد أن نسأل لماذا عجز العرب عن بناء دولة حديثة؟
أسباب هذا العجز متداخلة، ولعل أهمها أن الأيديولوجيات السياسية التي اعتبرت تقدمية ورفعت شعار تأسيس الدولة، لا سيما في الأنظمة الجمهورية، لم تستطع متابعة عملية التحديث، وكان همها المحوري البقاء في السلطة وتوهيم الجمهور بشعارات المؤامرة الخارجية لتجذير هذا البقاء. واللافت أن الانقلابات في العالم العربي تمّ إدراجها تحت شعار الثورات، وربما قد نحتاج الى إعادة تعريف لمفهوم الثورة في المعاجم والأدبيات السياسية، وإعادة صوغ تعريف حديث يدفعنا الى طرح سؤال آخر، هل ما يجري الآن في العالم العربي، ثورة أو فورة؟
الثورة الحقيقية تعني بالدرجة الأولى الحداثة السياسية والحداثة الاجتماعية والإصلاح الديني. حتى اللحظة يبدو أن هذه الفورات المتنقلة لم ترق بعد الى المستوى الثوري المطلوب. وإذا أجرينا مقاربة أولية للنتائج التي أفضى اليها الحراك الشعبي في عدد من الدول العربية، نجد أن الخطاب السياسي الذي تتبناه القوى الجديدة، لا يحمل في طياته أي معطى حداثوي، فهذه القوى تتحدث عن الدولة المدنية والتعددية، ولكنها لا تجرؤ على تبني العلمانية كمشروع متكامل، وهذا لا يعني أن الإسلام يقاوم العلمانية، بل المطلوب كما خلص ناصيف نصّار «التأويل الراديكالي لعلاقة الإسلام بالسياسة بغية التوفيق بين الإسلام والعلمانية... فالإيمان ممكن مع استقلال العقل والدولة عن الدين».
البداوة السياسية في العالم العربي، تستمد قوتها من القبلية السياسية التي تحكم باسم العشائر، ومن الطائفية السياسية التي تحكم باسم الدين، ومن الأحزاب الأحادية التي تحكم باسم الايديولوجية والمؤامرة الخارجية. وبين هذه الأنماط الثلاثة وغيرها، يقع الجمهور العربي ضحية الاستلاب الجماعي والأمية السياسية، خصوصاً أن ذهنية هذا الجمهور، لم تعتد على المساءلة والنقد، بل على العكس من ذلك يتم ترويض وتوهيم الجماعات بالايديولوجيات السياسية والدينية في آن، ومن المهم الاشارة الى سطوة الأب/ القائد على الأدبيات السياسية العربية، بدل استعمال رجل الدولة؛ والأب السياسي هنا شبيه بالأب الإلهي، القهار، والقادر، والجبار، والمنتقم.
تتضح البداوة الثقافية في إحياء الماضي وإعادة إنتاجه. العرب يغلبون ماضيهم على حاضرهم، ولا يريدون الخروج الى مستقبلهم، وأي قراءة نقدية للتراث الديني تحديداً، تجابه بمقاومة شرسة من حراس العقيدة، أي من رجال الدين، الذين يملكون جمهوراً عريضاً؟ فهل يجب أن يقطع العرب مع الماضي لدخول الحداثة؟ ولماذا هذا الحنين الانفعالي تجاه الموروث، بصرف النظر عن مكامن الإشعاع فيه؟ وكيف يمكن تفكيك الذهنية الاعتقادية والبناء للعقل النقدي؟ وهل المعركة مع الإرث الثقافي أخطر بكثير من المعركة مع السياسي والاجتماعي والديني؟
ما يحتاجه العرب في ربيعهم، النظر الى الماضي بعين نقدية، والتخلص من الثقافة البكائية، والسعي لاستكمال نهضتهم بالانتاج العلمي والحداثة السياسية واستقلالية الفرد، وليس بالعودة الدورية الى التراث الذي يخافون تجاوزه بدعوى قداسته. والقراءة النقدية للتراث الديني لا تعني القطيعة معه، رغم أننا نحتاج أحياناً الى هذه القطيعة.
ريتا فرج
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد