المُنَاظَراتُ الخيالية في أدب المشرق والمغرب والأندلس
كتاب( المناظرات الخيالية في ادب المشرق والمغرب والأندلس) الصادر حديثا عن دار الفكر بدمشق .. درست فيه الباحثة الدكتورة رغداء مارديني فنُّ المُنَاظَرات الذي شغل معظمَ الباحثين والدارسين، ولاسيما ما تعلّق منها بالمُنَاظَرات الدينية والعقائدية والنحوية والسياسية، انطلاقاً من أن إرهاصاتِ المُنَاظَراتِ الأولى بدأت حول أحقية الخلافة بعد وفاة النبي ، وما ترتّب على ذلك من معاركَ لاحقةٍ بين المُتَناظرين، وظهورِ الفرقِ والأحزاب والمنافحين عنها.
وقد لقي فنُّ المُنَاظَراتِ هذا عنايةً فائقةً من هؤلاء الدارسين، لما قدّمه من مصنّفاتٍ ورسائلَ حملَتْ رؤىً وأفكاراً قامتْ في أساسِها على الجدلِ والحجّةِ والبرهانِ والمنطق.
ولم تجد الباحثة من أفرد حيّزاً لفنِّ المُنَاظَرات الخيالية النثرية، بدراسة أو تحليل أو نقد، يحدّدُ وظيفتَها عبرَ العصورِ التي وُجِدَتْ فيها.. مع أنها تعتمدُ أسلوبَ التشخيص الخيالي الذي يحرّك الجمادَ فيجعله ينطقُ ويجادلُ ويناقشُ، بما يغري الدارسين بخوض غمارِه بحثاً عن جماليّات الأدبِ، وإبداعِ اللغة وطرافة الموضوع، وحتى بالنظر في الرجوع إلى نشأتِه التي أجمعت المعلوماتُ المنثورةُ في مصادر الأدب ـ على استحياء ـ أن مبتكرَها سهلُ بن هارون والجاحظُ وغيرُهما، لتأثّرِهم بالثقافات التي دخلت عبر الترجمة (الهندية، الفارسية، اليونانية)... ولكنّ البحثَ والتقصّي قاداها إلى ما وُجِدَ على الرُّقُمِ والألواحِ السومرية والبابلية من مُنَاظَراتٍ خيالية اكتملتْ فيها الأركانُ والشروطُ، ليتبيّن لي أنَّ أصلَ المُنَاظَراتِ الخيالية يعودُ إلى ما قبلَ الإسلامِ، وليس إلى العصر العباسي كما ذهب بعض الدارسين.
وقد شعرتُ بدايةً بغرابةِ البحثِ عنّي-كما تقول-، وترامي أطرافِ معلوماتِه، وصعوبةِ الحصول على المُنَاظَرات الخيالية المختبئة في بطونِ أمّاتِ الكتب، لضبط سير تطوّرها وأعلامِها، واعتقدت للوهلة الأولى أنّي تسرَّعت في عدم تحديدِ الإطارِ الزمنيِّ في عصرٍ محدّدٍ من العصور، لكنني أدركتُ أثناء البحث أن هذا ليس ممكناً، وذلك أن ندرةَ ما وصلَ إلينا، لم يتركْ لفنّ المُنَاظَرةِ الخيالية أن تتكثّفَ في عصر معين، بما يسمح بدراسته منفرداً عن باقي العصور، وحتى لو فكّرْنا بحصرها في أحد العصورِ (كالعصر العباسي، أو الأندلسي، أو المملوكي.. الخ)، فإن هذا لن يمنَعنا من العودة مرة أخرى إلى دراسة منبتِها وجذورِها، ومتابعةِ نشأتِها وتطوّرِها بين المشرق والأندلس.
وقد أسْلَسَتِ الدراسةُ لي قِيادَها ضمن الإطارِ الزمنيِّ المتّسعِ والممتدِّ منذ ما قبلَ الإسلام وصولاً للعصر الحديث، عندما حرصتُ على ترتيبِ المُنَاظَرات الخيالية حسب سنيّ وفاة مؤلفيها، كي يتحقق لي إمكانُ رصدِ تطوّرِها رصداً عميقاً، وبما يتيحُ التعرّفَ عن قربِ على آلية التأثّر والتأثير بين أدباء العصور بعضهم ببعض.
وهذا كلُّه لم يأتِ من فراغٍ، فقد شغَلها اختيارُ البحث سنواتٍ طويلةً، وهي تتناول المصادرَ والمراجعَ من رفوف المكتبات لتعيدَها ثانيةً دون طائلٍ أو جدوى، حتى اهتدت أخيراً إلى موضوع هذا البحثِ البِكرِ الذي وجدت –كما تقول-أنه لم يحظَ باهتمام دارسي الأدب، أو محاولتهم بالإشارة إلى ملامحهِ أو خصائصهِ بما يعرّفُ بهذه المُنَاظَرات الخيالية.. وربما يعودُ السببُ في ذلك لندرةِ المصادرِ والمراجعِ، إلا من قلّة كتبٍ حديثةٍ تبرّع أحدُهم بجمعِ مادّتِها بعنوان المقامات تارةً، والرسائل تارةً أخرى، أو من مُنَاظَراتٍ منثورةٍ ما زالت في المصادر، أو مخطوطاتٍ لم تُثِرْ اهتمامَ الباحثين لنفضِ الغبارِ عنها.
وتبيّن لي بعد الاطلاع على الدراسات الخاصة بفنِّ المُنَاظَرات بصورة عامة، أن أحداً لم يُشِرْ إلى موضوع المُنَاظَرات الخيالية في أي بحث أكاديمي يؤصّل لها ـ في حدود علمي ـ ويكشفُ النقابَ عن كنوز المخطوطات التي تلقي الضوءَ عليها، ما هيأ للبحث جدّتَه، وتأصيلَه لمفهوم المُنَاظَرات الخيالية، وموضوعاتِها وأعلامِها.. وفي تحديد البيئة التراثية الأولى التي تحوّلت فيها المُنَاظَرة الخيالية إلى فنّ ضَرَبَ عميقاً في بناء القصة والمسرحية لما يحتويه من عناصر القصِّ والتشويقِ والحوارِ في الأدب العربي.. ولما يحويه من ذاك التشخيصِ الخيالي المهمِّ الذي أضفاه مؤلفو هذا النوع من المُنَاظَرات على موضوعات مُنَاظَراتهم.
وقد اتّبعت في دراسة موضوع المُنَاظَرات الخيالية بين المشرقِ والأندلسِ منهجاً تكاملياً ذاتياً، اعتمدت فيه على أسلوب التحليل انطلاقاً من رؤية ذاتية استندت إلى ثقافة تكوينية نفسية ولغوية، وأدبية نقدية، سَبَرَتْ أعماقَ المُنَاظَرات الخيالية ووظيفتَها في حياة العصور التي وُجِدَتْ فيها.
وقد ضمّنتُ الدراسة خمسة فصول بعد المقدمة..
تضمن الفصل الأول معنى «فن المُنَاظَرة» من خلال ما ورد في كتب اللغة والتفسير.
ثم اتجهت إلى نشأة فنِّ المُناظراتِ الواقعية في المشرق، ووقفت عند ما جاء في القرآن الكريم من إرهاصاتٍ أولى شكّلت أساساً لمناظراتٍ تدعو إلى التفكّر والتأمّل والاستنتاج، وقد عُدَّتْ مسألةُ الخلافةِ بعدَ وفاة الرسول أولَ نظرية دينية سياسية دارتْ حولَها المناظرات.. وما تلا ذلك في عصر الخلفاء الراشدين، وعصر بني أمية والانفتاح الكبير في العصر العباسي.
وقد اتخذ بعضُ الخلفاء من فنّ المُنَاظَرةِ وسيلةً للدفاع عن رؤاهم وأفكارهم وسياساتهم، بينما خاف بعضُهم الآخر من الإغراق في مزج السياسة بالدين، والخروجِ على تعاليم الدين بما حوته من آلية مناقشة منطقية ابتعدت عن التسليم وتركت للعقل حريته في الحوار، ما أدى في بعض ذلك إلى الإلحاد والزندقة الذي حاربه هؤلاء الخلفاء بشدّة خوفاً على المسلمين والدين والخلافة.
وقد شهدت القرون الخمسة الأولى من حياة الدولة الإسلامية أنواعاً كثيرة من المناظرات: الدينية، السياسية، النحوية، العقدية، الفقهية، الفلسفية، الأدبية.. الخ، وأسست لنشوء المناظرات الخيالية التي عكف الأدباء فيها بالكتابة على ألسنة الحيوان والجماد والنبات لإبراز ثقافتهم والرد على الظواهر التي حفلت بها مجتمعاتهم. ومن ثم تطوّرت المناظرات إلى العصور اللاحقة (كالعصر المملوكي) الذي برزت فيه أسماء كثير من علماء الكلام والأدباء، ممن اهتموا بهذا الفن وأجادوه حتى وصل المطاف ببعضهم إلى المحاكمة والقضاء.
ثم أنهيت الفصل الأول بالحديث عن المناظرات في الأندلس، ووقفت عند بعض الموضوعات التي طرحت للمناظرات.. لأخلص إلى عوامل ازدهار المناظرات الواقعية بصورة عامة بين المشرق والأندلس.
ولما تمت لي دراسة المناظرات الواقعية من حيث نشأتها في المشرق والأندلس، كان منطقياً أن أتجه إلى دراسة نشأة المناظرات الخيالية، وأبرز أعلامها.. ولهذا كان الفصل الثاني خاصاً بدراسة هذه النشأة وأبرز أعلامها في المشرق والأندلس.
وقد بدأت في الجزء الأول من هذا الفصل بالحديث عن معنى المُنَاظَرة الخيالية التي تقوم في محورها وأساسها على اصطناع مُنَاظَرة من خيال المؤلف بإضفاء التشخيص على المتناظرين، يعبّر فيها عن رؤى فكرية بأهداف مختلفة ومتباينة، يكون أسلوبها الحوار المنطقي لتنتهي بقاض يحكم بين المتناظرين في النهاية.
ورأيت أن نشأة المناظرات الخيالية في المشرق، يعود إلى العصر السومري والبابلي، لا كما حدثنا الدارسون من أنه يعود إلى ابتكار سهل بن هارون والجاحظ، وقد أشرت إلى خمس مناظرات خيالية من تلك العصور السحيقة مما سجلته الألواح والرُقُم، تبارى فيها أزواج من الآلهة، أو الظواهر الطبيعية، أو النبات، لم تبتعد في أسلوبها عن أسلوب المناظرات الخيالية التشخيصي والمرجعية الأسطورية للمناظرات الممسرحة قديماً والتي تنشأ بين قوى الطبيعة أو من يمثلها حسب المعتقدات السائدة آنذاك.. لأقول من خلال ذلك أن بعض الأدباء تأثروا بأساطير ما قبل التاريخ، واعتمدوا على أسلوب التشخيص والمسرحة فيها ليبتكروا مناظراتهم الخيالية فيما بعد، ويحمّلوها أفكارهم ومعتقداتهم الفكرية، ومن ثم الأدبية.. ولم أقف في العصر العباسي إلا على مناظرات خيالية معدودة، أشارت لها المصادر، بسبب ضياع معظمها.. وتداخل بعضها الآخر كفنّ مع المقامات والرسائل مثلما رأيت في اليمن والمغرب مثلاً.
ورصدت لتطوّر هذا الفن واتساعه من خلال ما أوردته المصادر من معلومات وصولاً في ذلك إلى العصر المملوكي وما تلاه من عصور وانتهاء بالعصر الحديث، وقد أوردت ثبتاً بأسماء أعلام المناظرات مرتّباً حسب سني الوفاة ابتداء من العصور المتقدمة وحتى العصور المتأخرة، وقدمت تراجمَ خاصّة بهؤلاء الأعلام، وأبرز تصانيفهم العلمية والأدبية.
وتتبعت في الجزء الثاني من الفصل الثاني نشأةَ فنّ المناظرات الخيالية وأعلامها في الأندلس والمغرب، وأكدت على تأثر الأندلسيين بالمشارقة في هذا الفن، الذي بدأ من الأندلس بما ابتكره الجزيري من بِدَعٍ على لسان الأزاهير، وما كتبه المجريطي، وابن الجزار وابن برد وأبو بحر وغيرهم من مناظرات في أواخر القرن الرابع والخامس والسادس الهجري.. ثم تحدثت عن الشروط التي تطوّر فيها فن المُنَاظَرة وأخلاق المتناظرين، وكان منطقياً أن أتجه إلى امتداد هذا الفن إلى المغرب العربي، للتعرّف على مناظراته وأبرز أعلامه في حين بدأ هذا الفن يشيخ في الأندلس ليعود إلى المشرق ويزدهر فيه.
وذيَّلت لنشأة المناظرات الخيالية في الأندلس بترجمة لأبرز أعلامها، على غرار ما فعلت بالمشرق. ثم انتقلت إلى الفصل الثالث، ودرست فيه أنواع المناظرات الخيالية، التي قسمتها إلى ثمانية أنواع هي:
أولاً: مناظرات بين أنواع الأسلحة وغيرها.
ثانياً: مناظرات بين البلدان والأمكنة والمباني.
ثالثاً: مناظرات بين أنواع النبات.
رابعاً: مناظرات بين الحيوانات.
خامساً: مناظرات بين الأشياء.
سادساً: مناظرات بين مظاهر الكون.
سابعاً: مناظرات بين العلوم.
ثامناً: مناظرات مختلفة.
وقد حاولت تتبّع كل نوع من هذه الأنواع من حيث النشأةُ والمناظراتُ التي قالها الأدباء فيه، وجعلتها مرتّبة حسب سنيّ وفاة مؤلفيها، وحسب نوعها في المشرق والأندلس معاً، وذلك لسببين:
الأول: لتتبّع تطوّر فن المناظرات الخيالية، وتأثّر الأدباء بعضهم ببعض، سواء في النوع الواحد، أو في الأنواع جميعها.
الثاني: لإيجاد القواسم المشتركة، وتبيّن أساليب النَّحلِ والنقل، والسرقة الأدبية والاضطراب، سواء في الأسلوب أو المنهج أو الأفكار على مرِّ العصور في المشرق والأندلس.
وقد قمت في ذلك كله بعرض شامل للمناظرات التي بلغت أكثر من مئة وثلاثين عنواناً من فواتحها لخواتيمها، مع التعليق والشرح، وإظهار المعلومات المتباينة والمتشابهة والمتطابقة فيما بين الوحدة المتجانسة في النوع الواحد، وفيما بينها حيناً آخر، إضافة لاعتماد أسلوب المقارنة فيما بينها حيناً، وبين المشرق والأندلس حيناً آخر.. وإظهار تأثر المحدثين بأسلوب المناظرات الخيالية.. وحاولت من خلال عرض هذه المناظرات الخيالية وتحليلها والتعليق عليها، الإشارة إلى مصادرها، وإلى ضياع الكثير منها عبر العصور.
ثم كان الفصل الرابع لدراسة موضوعات المناظرات الخيالية، وقد لاحظت أن هذه الموضوعات تأثرت جميعها بشخصيات مؤلفيها، فقد أعطوها من ذاتهم الكثير، فجاءت معبرة خير تعبير عن مكنونات أنفسهم وأهدافهم الشخصية والعامة، وقد استخدموا فيها ثقافتهم في دعواتهم الدينية والسياسية والاجتماعية للإصلاح في مجتمعاتهم..
ففي الأغراض الدينية وجدت من الأدباء من اتخذ من الدين ورموزه، كإشارات الأمكنة والمدن المقدسة، ستاراً وموضوعاً لتحقيق مكاسب شخصية.. ومنهم من اتخذ من الوعظ الديني أداة لإقناع الناس، والتأثير على عقولهم.. وقد ردّوا عقدياً على خصومهم ممن أراد هدم نظريات القرآن الكريم، كما فعل السيوطي في مناظرته «بين النَّار والتراب»..
ولم يترك المؤلفون باباً في هذا الموضوع إلا وطرقوه، وبخاصة أن الدين كان له أبلغ الأثر في نفوس العامة والخاصة. وكانت الأخلاق والاستقامة تقاس في البعد أو القرب منه.
وقد رأينا أن الأغراض السياسية امتازت بالعمق في طرح موضوعاتها، فقد تناولت الصّراع بين الكتّاب (أصحاب الأقلام) والجند (رجال السيف والسلطة والبطانة) من خلال مناظرات السيف والقلم، والتي رأينا كيف تنامى فيها الغرض السياسي القمعي لتصبح هاتان الأداتان رمزاً في يد حاكم عادل، وضرورة لإقامة دعائم أي حكم.. وقد استفضت في دراسة المناظرات ذات الدلالات السياسية والمذهبية والأهداف والغايات والتي تصبُّ في كثير منها في الأهداف الشخصية والمدح والنفاق السياسي، والتأثير على العامة بالخضوع المطلق والطاعة العمياء.
ورأيت بالتالي كيف بدا الغرض السياسي في مظاهر متعددة؛ إذ كشفت المناظرات الغطاء عن جور الحكام وقمعهم، والانقسامات السياسية، والتفكّك المجتمعي والصراع فيه على السلطة ومقاليد الحكم.
وإذا تركت أغراض السياسة اتجهت لدراسة الأغراض الاجتماعية، وما قدمته المناظرات الخيالية فيها من وصف للواقع المتردّي، والشكاوى على المتنفّذين في الحكم الذين سلبوا كل شيء، ولم يتركوا للرعية إلا الفتات من القوت والمعيشة القاسية.. ووجدت أن المناظرات أكدت على البطانات الفاسدة ودورها في نهب أموال الناس وأرزاقهم، ولجأت في رفع الظلم عنها لبعض الحكام الذين وصفوا بالعدل والأخلاق والقرب من الدين.
وقد أثارت المناظرات موضوعات اجتماعية تتعلّق بالعادات السيئة وضرورة التخلص من الموبقات التي انتشرت في بعض العصور، وقد تجلّى ذلك بالحِكَم الكثيرة التي تحضّ على السلوك والأخلاق التي تناولت قضايا المجتمع الصغرى منها والكبرى من خلال اتباع الإرشاد والتربية والتعليم..
وبدا لي في الأغراض التعليمية حرصُ أدباء المناظرات على تربية الأبناء والجيل على المنطق والتفكير القائم على الحجج والبراهين، كما برز عند المتقدمين في العصور الأولى.
وفي الأغراض الأدبية، وجدت أن أدباء المناظرات وبخاصة في العصور المتأخرة قد جهدوا لإثبات غزارة علومهم والتباري بالقدرة على وضع المناظرات وصياغتها تقليداً لأدباء بعض العصور المتقدمة، فشاهدنا استعراض الأدباء لقوة بيانهم وبلاغتهم، وتبيّن من عناوين بعض المناظرات لجوء أدبائها إلى الترفيه بما تجلّى من ألفاظ (الترويح، والمسامرة، والتسلية، والبسط واللهو)، إذ صارت المناظرات الخيالية ترفاً وتسلية أخذ فيها اللفظ قوته على حساب المضمون والمعنى.
ووجدت أن أدباء العصور المتأخرة، استعادوا بعض عناوين العصور المتقدمة، وصاغوا على منهجها، بأسلوب جديد اعتمد على الشكل أكثر من المضمون.
ثم كان الفصل الخامس لدراسة الخصائص الفنية للمناظرات الخيالية.. وفي هذا الفصل تحدّثت عبر مقارنات بين المشرق والأندلس من حيث الشكل والبناء الفني والخصائص اللفظية والمعنوية والمضمون ومن حيث تنسيق الأفكار العامة والفرعية، والتي اعتمد فيها الأدباء الترتيب المنطقي المعتمد على أسلوب الوعظ والمدح والحكمة، والمتّسم بالوضوح والبساطة وعدم التعقيد والغموض، وقد جاء هذا انعكاساً موضوعياً وشكلياً للبيئات التي ولدت فيها هذه المناظرات التي استطاعت أن تقدّم صورة واضحة لخصائص هذه المناظرات، وأسلوب التجديد والتشخيص فيها.
هذا الأسلوب الذي جعل أبطال المناظرات من الجماد والحيوان والنبات تعقل وتتحرّك على مسرح الحياة، بما تملكه من أدوات الإنسان روحاً وعقلاً، متّخذين من أسلوب التغاير بين الذم والمدح، ووجهة النظر وخلافها، ميداناً تصويرياً متقدماً في التعبير إذكاءً لشعور المتلقين وإظهاراً لحماستهم.. فالصورة الخيالية والرمزية تفعل في النفس أكثر مما تفعله الصورة الحقيقية، ولاسيما إذا اعتمدت على التهكّم والسخرية نسيجاً لها.
وأظهرت السمات العامة للمناظرات وعناية الأديب الفائقة في ترتيب أفكاره واتساق معانيه، والابتعاد عن الوحشي والغريب من الكلام، واعتماده على قصار الجمل، بعيداً عن إطالتها إلا بما احتاجته المُنَاظَرة من ضرورة في الإقناع والشرح، وأشرت لذلك بما سقته من أمثلة ونماذج.
وتوقفت عند السرقات الأدبية في المناظرات، سواء ما تعلّق منها بالألفاظ والعبارات والتأثّر بين الأدباء بعضهم ببعض أو ما تعلّق منها بسرقة موضوع المُنَاظَرة كاملاً، ورصدت لذلك بالأمثلة التي تؤكد ما ذهبت إليه.
وبما أن الأدباء كانوا يعبّرون عن شعورهم الإنساني العاطفي في هذه المناظرات الخيالية، فقد دفعني هذا لرصد تعاملهم الأسلوبي مع القص، والحوار، والاتّكاء على الألفاظ الدينية والوعظ، والتهديد والوعيد، والتهكم والسخرية.. واعتمادهم على الأسلوب الإنشائي من صيغ النداء والتعجب والاستفهام، والتمنّي والخطاب، والأمر والنهي، واستخدام ألفاظ التوكيد البلاغية، والقسم والتكرار للتأثير في سامعيهم وإثارة انفعالاتهم.
واتضح لي أن أدباء المناظرات لم يدّخروا وسعاً في استخدام ألوان البديع والبيان كلّها، بما لا تتسع له صفحات الدراسة، وقد جرى الاكتفاء بالأمثلة التي تعطي صورة واضحة للخصائص الفنية في هذا الجنس الأدبي الذي غدا عند المتأخرين صنعة أدبية أجادوا وأحسنوا الكتابة فيها.
وتوصّلت في ذلك إلى نتيجة، مفادُها أن هذا الفن الأدبي، كان مطواعاً لأقلام كتّاب المُنَاظَرات الخيالية عموماً، لما نراه من إسقاطاتٍ ورموزٍ أشاروا لها، وانتقدوا فيها ظواهرَ خطيرةً في مجتمعاتهم، طالت السلطةَ والمجتمعَ، والحُكْمَ، ورجالَ الدّينِ، والعامةَ والخاصةَ، وقدّمَتْ موسوعاتٍ معرفيّةً في الآداب والعلوم والعادات والتقاليدِ مما تميّز به كلُّ عصر من العصور (بين المشرق والأندلس).
ولكنّ الملاحَظ أن المرأة كان لها نصيبٌ كبيرٌ بأن تكون محوراً في هذه المُنَاظَرات.. لكنها لم تكن من كتّابِها أبداً.. ولعل السببَ يعودُ في هذا، لضياع الكثيرِ من المُنَاظَرات الواقعيةِ والخياليةِ عبرَ التاريخِ الأدبي إضافة لعدم اهتمام المصنفين والمؤرخين بتدوين نتاجِ المرأة الإبداعي مقارنةً بإبداع الرجلِ، وثانياً لأن المرأة لم تكن تحضر مجالس الرجال ـ ولاسيما في العصور المتأخرة ـ فكانت تلك المجالس مكاناً للهو والتسلية والترويح؛ وذلك للانغلاق الاجتماعي وسيطرة العادات والتقاليد التي كبّلت حريّة المرأة، كما برز هذا في اليمن بوضوح كبير، وانعكس فيما قاله الأدباء في مُنَاظَراتهم الأدبية الخيالية تلك.
إضافة تعليق جديد