الهروب الجميل لكريستيان أوستر
في روايته الجديدة «التجوال Rouler»التي تحمل الرقم 15، يستعرض كريستيان أوستر ببراعة حس الفكاهة ودقة الملاحظة والاعتدال التي تعد من العلامات المميزة في نسجه الروائي. وبإسهاب شديد يقدم حالة من التأجيل والانتظار والأمل، وسعادة ممكنة لكنها غير مدركة بعد. وفي روايته الجديدة هذه- التي نشرها للمرة الأولى عن دار نشر لوليفييه حيث كان يتعامل مع دار مينوي- بقي وفياً للمنحى الشعري الذي يعتمده في كتاباته.
كريستيان أوستر، الحائز على جائزة ميديسي ( Médicis) عام 1999 عن روايته «شقتي الكبيرة»، أحب اللحظات الساكنة حيث لا يوجد فيها شيء بعيد الحدوث وأحب المغامرات المملوءة بالممكنات غير المؤكدة، وعند قراءتنا للرواية نفهم أنه تمنى فعلاً أن تتحقق تلك السعادة المنتظرة التي غالباً ما يصبو إليها العشاق.
«أياً تكن المدينة»
«التجوال»هي قصة حب كما روايات أخرى لكريستيان أوستر، لكنها هنا لا تبدأ إلا مع آخر صفحة من الكتاب. قصة تبدأ بإيجاز وبهدوء واضح ثم تتجلى لنا من خلال العودة بالسرد إلى الماضي وحكاياته. يتبين لنا منذ بداية الرواية أن الشخصية الرئيسية هي الراوي- لكننا نشعر بأن رحلته لم تبدأ من هنا. فهو مازال في بداية الرحلة وليس ببعيد عن نقطة انطلاقه ريوم (Riom) – حيث يستهل الحديث بصيغة المتكلم، وبأن اسمه «جون»,لكن الاسم لا يظهر إلا في وقت لاحق من القصة.
هذه الطريقة في السرد حيث يتم التعرف لاحقا على الشخصية, نراها متكررة في روايات كريستيان أوستر. شخصية جون هي ترجمة حقيقية لحالة التأجيل التي يشعر بها الكاتب. «أشعر بالخوف من الوصول إلى مرسيليا, أو إلى أية مدينة تقع على البحر». هذا ما يقوله جون في الرواية، فهو يسعى أن تفضي به الطريق إلى مرسيليا, ولكن بأبطأ شكل ممكن. يقود سيارته رافضا وبشكل غريب أن يتقدم في رحلته، مترقبا الصمت والمناظر الطبيعية والانطباعات الحيادية.
«انشغالات كثيرة»
لماذا يتجول جون في طرقات فرنسا؟ هل يبحث عن شيء ما؟ هل هو هارب؟ أسئلة شديدة الوقع... لكن حتى الآن, من خلال القراء, يبدو لنا جون شبيهاً بشخصية بارتلبي في رواية الكاتب الأمريكي هيرمان ميلفيل. فهو شخص «يفضل ألا...» يفضل ألا يقابل أناساً آخرين, وألا تثقل كاهله امرأة, وألا يكون اجتماعياً... خوفاً كما يقول، من أن «كل ما يطول قد يؤخرني.» «إنها أحداث كثيرة مفاجئة بعد حالة الصمت التي ملأت طريقي». هذا ما كان يفكر به وهو يقطع آلانش (Allanche)، البلدة التي يمر بها الكثيرون ممن يسارعون بتجاوزها. لكن العالم الخارجي لا يتركه دون بعض الإزعاجات من وقت لآخر مثل بعض المسافرين الراجلين على متن السيارات العابرة (Auto-stoppeurs) واللقاءات العابرة مع المصطافين والبائعين, وكل ما يزعجه ويعكر صفو عزلته. إنه لمن الصعب لعب دور الناسك في رحلة بالسيارة.
وعلى الرغم من صعوبة تتبع الحبكة في رواية «التجوال»، حيث يهتم الكاتب بالأحداث الصغيرة فقط، استطاع كريستيان أوستر أن يأسرنا, ويسحرنا بأسلوبه الذي اعتمد فيه على حس الفكاهة – اليائسة بعض الشيء- والتي يسقطها على كل شيء، إلى جانب الحنان الكبير الذي يظهره في نهاية المطاف تجاه الأمكنة والأشخاص.
إن حس الكوميديا الممزوج ببعض السخط، وطعم الوحدة وعزلة جون عن هذا العالم وتجواله في الطرقات, ورفضه القاطع للسياحة لايمنعه -في سره- من أن يلين قليلا في بعض الأحيان, وأن يتواصل مع البشر – مع أن ذلك يزعجه أحياناً- خصوصاً مع هؤلاء الذين يلتقي بهم في طريقه.
المصدر: (تشرين) عن صحيفة لوتان السويسرية
إضافة تعليق جديد