باولو كويللو وغارسيا ماركيز مرآتان للتأمل
حين كان الكاتب البرازيلي باولو كويللو في الخامسة عشرة من عمره قال لأمه: إنه يريد أن يصير كاتباً, أما غابرييل غارسيا ماركيز فقد نشر قصته الأولى في إحدى الجرائد حين كان طالباً كتحدٍ, ثم وجد أن عليه الاستمرار في ورطة الكتابة.
معلومات ومناقشات وتأملات شخصية وعامة نقتطف بعضاً منها مما نشره كويللو في كتابه (مثل نهر يجري)، وأيضاً مما جمعه ماركيز في كتابه (لم آت لألقي خطاباً) وقد استحضرنا هذين الكاتبين معاً لما لهما من شهرة وتأثير على القرّاء في كل بلدان العالم, على الرغم من اختلاف أسلوبيهما في الكتابة, فالأول يبدو أقرب إلى الشحنات الوجدانية العالية في تعاطيه مع الإنسان والحياة والروحانيات.
فلسفة حياة تتوخى النور
عرف كويللو كيف يعود إلى ثقافات الشعوب الآسيوية والإسلامية والمسيحية, مستلهماً منها ذخيرته فترجمت مؤلفاته إلى 120 لغة عالمية .
الحياة عند كويللو هي الفعل والفعل فكرة تتجسد من خلال سهم هو إطلاق النية في الفضاء, على أن يتحلى الإنسان بقلب مطمئن وشفاه مبتسمة, وأن يتشبه بقلم الرصاص الذي يتوقف عن الكتابة أحياناً ليبرى ويصبح بعدها مشحوذاً أكثر, هذا القلم الذي يتيح للممحاة أن تمحي أخطاءنا.
نصوص الكتاب ومقالاته وتأملاته أشبه بصلاة يغرينا كاتبها بأن نقرأ طقوسها ونتشرب جوانيتها ونلبس أجنحتها كي نصل بأرواحنا إلى سعادة تحقيق الذات وصولاً إلى حب الله, يقول باولو: (يجب علينا أن نكافح من أجل أحلامنا, وعندما تسد بعض الطرق أمامنا علينا أن نحتفظ بطاقتنا للسير في طرق أخرى).
إنها اللحظات السحرية التي يصر عليها مبدعنا البرازيلي في كل أعماله, اللحظات التي لا يمكن نسيانها مدى الحياة, والتي يعيشها الإنسان بكل جوارحه, وقد تتحقق له في الطريق إلى النور أو في مكان العبادة كما عاشها كاتبنا بنعيم تنزّل من السماوات على وقع الموسيقا التي تغزلها فتاة تصلّي على طريقتها, وفهم الكاتب من ذلك المعبد الصغير وصوت الفتاة ونور الصباح أن عظمة الله تتجلى دوماً في أشياء بسيطة, وأن أعظم الأشياء هي المحبة كما ورد في رسالة القديس بولس إلى الكورنثيين في الإصحاح الثالث عشر.
ومن «رسالة تالان أو الفهم الهادئ» وهو كتاب ياباني عمره قرون كثيرة, استخلص كويللو بعض المقاطع تحت عنوان (فن المبارزة بالسيف) وبرأيه تنطبق هذه الحالات على الحب والحرب, تقول: إنه لا داعي للقلق فالهدوء يعلم الجرأة على اختيار القدر, وحضور صوت القلب لدى الإنسان يخلق انسجامه مع العالم المحيط, فنحن نحتاج الآخرين كي نبلغ أهدافنا, ونحتاج معلماً جيداً يعلمنا وسائل كثيرة لبلوغ الطريق التي علينا سلوكها, وأن نكون منسجمين مع حبنا أو مع معركتنا فنتعلم ردود الفعل السريعة والملاحظة الواعية.
كما تعلّم من رحلته في الطريق إلى سانتياغو ومن تجربة الدفن حياً أن لا يشعر بالخوف وأن يرى الموت رفيقاً دائماً يجلس بجانبه, ما انعكس على حياته غنى معرفياً وروحياً كأن لا يؤجل إلى الغد ما يمكنه عمله اليوم, وأن يعتذر عن أي أذى سببه لأي شخص, ويتأمل اللحظة الحالية كما لو أنها الأخيرة.
يخلص الكتاب إلى دعوة العالم إلى السلام، وذلك عبر أدعية ختامية مقتبسة من كل الحضارات, منها دعاء داما بادا البوذي: رب كلمة تجلب السلام أفضل من ألف كلمة.. وليس أجمل من حكمة لاوتسو الصيني الذي قال: كي يعم السلام بين المدن يجب على الجيران أن يتفاهموا.. كي يعم السلام البيت يجب أن تمتلئ به قلوبنا.
نضال من أجل رافعة الثقافة
هنا خطابات بلغة ماركيز تجسد رغبة مثقف بولادة جديدة تستند إلى أسس ثقافية تقوم على (استحضار أرواح الشعر المتهربة، وكذلك على الإيمان بقدراته التنبؤية وانتصاره الدائم في مواجهة سلطات الموت الصماء) كما قال كاتبنا في حفل تتويجه بجائزة أكاديمية الآداب السويدية.
وهنا أيضاً تتوالى الأحاديث والأسئلة المشروعة التي يبتكرها الكاتب كوسيلة للخوض في نقاشات مجدية تستحضر التاريخ والحضارات، فيتساءل كما نتساءل دائماً عن جدوى لقاءات المثقفين، وقد لا نجد إجابة تشفي نهمنا المتجدد يومياً كما وجدها هو، إذ يتحدث باختصار عن واقع ثقافي بصورة لقاءات وصالونات ومؤتمرات كتاب ومهرجانات فنون ومناظرات تعقد بكثرة وبازدياد منذ أعوام ما قبل الميلاد، حين تغنى (بندارو) الشاعر الغنائي الإغريقي بالانتصارات في الألعاب الأولمبية الهيلينية، كدليل على تقدير الناس لمآثر الشعراء منذ ذلك الوقت، واستمرت مؤتمرات الثقافة في العصور الوسطى والأمثلة منافسات شعراء، التروبادور ومبارياتهم مع لاعبي الخفة، وهناك عيد الزهور في تولوز وهو من أقدم مهرجانات الشعر وقد جاوز عمره 660 سنة. من هنا نستشف أزلية هذا الفن التعبيري الذي ابتكره عاشق ماوداوم عليه أبناؤه الروحيون، لكننا نتساءل مع ماركيز حول الجدوى العملية لهذه المهرجانات، وكذلك حول استمراريتها التي نجدها محوطة دوماً برصاص الموت والإقصاء من قبل خصوم الحياة والجمال، ويقترح صاحب نوبل (استشفاف طرق أخرى في التنظيم العملي لتصريف طوفان إبداعية شعوبنا الجارف، وان نحقق التبادل الحقيقي والتضامن بين مبدعينا، فالاستمرارية التاريخية للإبداع الفكري هو اشد المهن الإنسانية إبهاماً وتوحداً).
يتطرق ماركيز في خطاب آخر لكارثة إبادة جماعية كونية قد لا ينجو منها ومن ذكرياتها كثيرون، تتلخص في انفجار لجزء ضئيل من الترسانة النووية المكدسة في مستودعات أسلحة القوى العظمى الجاهزة للاستخدام، ولإعطاب أربعة كواكب أخرى وكأن بيد مالكيها الأثرياء القدرة على حسم مصير الكون، هذا على الرغم من أن كلفة المحافظة على الحياة تبدو أرخص بكثير، وحسب الأرقام فإن برنامجاً لليونيسيف وضع عام 1981 لحل المشكلات الأساسية ل (500) مليون من أشد أطفال العالم فقراً عبر تقديم الرعاية الصحية والغذاء والتعليم يكلف مبلغ100 ألف مليون دولار، وهو مبلغ لا يعادل كلفة قاذفة استراتيجية من طراز (ب- 1ب) وكذلك فإن تأمين حاجة حوالى (575) مليون شخص يعانون الجوع يكلف أقل من 149 صاروخاً، والأمثلة كثيرة على الغلاء الشديد للأسلحة أي للفناء الذي تتسابق إليه الدول الكبرى منذ عقود، من دون أن يعبأ أحد بأصواتنا التي تطالب بعالم خالٍ من الأسلحة والألم والظلم.
لا تنتهي الكتابة لكن الكاتب يحط رحاله عند قصة من حياة فقره ونضاله استمرت ستة أشهر تزامناً مع انشغاله التام بكتابة (مئة عام من العزلة) منوهاً بحميمية إلى شجاعة زوجته في تصديها معه لتلك الأيام المقفرة إلا من انتظار اكتمال الرواية التي أصبحت فيما بعد من أكثر الروايات شهرة في العالم، وهنا نستعير ما قاله ثربانتس على لسان دون كيخوته (كل هذه الأمور التي تصيبنا هي إشارة إلى أن الأجواء ستهدأ وستحدث الأمور بصورة مواتية).
لعل القاسم المشترك بين هذين الكتابين هو الشكل الفني للنصوص الذي اعتمد المقالات والخطابات والخواطر، والمضمون وهو الدعوة إلى المحبة والإنسانية والثقافة والتأمل، بما يجعلهما مرجعين مهمين لكل محب للثقافة.
سوزان الصعبي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد