بيت الدمية لإبسن: العودة إلى الجذور في بحث المجتمع
ربما كانت مسرحية «بيت الدمية» التي كتبها النرويجي هنريك إبسن في العام 1879 واحدة من أشهر نصوصه المسرحية، بل وربما من أشهر النصوص المسرحية التي عرفتها المسارح الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لما شكّلته من ثورة اجتماعية حقيقية على الظلم الواقع على المرأة في المجتمعات الأوروبية في ذلك الحين، فهي تتحدث عن المرأة المضحية في سبيل سعادة بيتها وزوجها في الوقت الذي لا تلقى من الأخير إلا الجحود والنكران للتضحيات التي تقدمها..
وما النهاية القاسية التي تقدمها المسرحية والمتجلية برفض الزوجة لكل محاولات الزوج إنقاذ ما يمكن إنقاذه إلا التعبير الأوضح من قبل الكاتب على رفض كل محاولات تجميل وتبرير مواقف الرجل الانفعالية والسريعة تجاه المرأة والتي لن تعود عليه إلا بخسارتها، وبالتالي خسارة البنية الاجتماعية التي حاول أن يؤسسها في بيته وفي محيطه الاجتماعي.
المجتمع موضوعاً
والواقع أن «بيت الدمية» ليست المسرحية الوحيدة التي كتبها إبسن بهدف الهجوم على البنية الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية فقد كرّس معظم أعماله المسرحية لهذا الموضوع كمسرحيات «الأشباح-عدو الشعب-فورة الشباب» وغيرها، وكان ينطلق دائماً في نصوصه هذه من الماضي ليرصد تأثيره على الحاضر وامتداداته، وبهذا يكون إبسن سيّد من قدّم شخصيات لها امتداداتها الزمانية والمكانية، حيث يخصص نصّه المسرحي لرصد الفصل الأخير من حيوات هذه الشخصيات، ولاسيما الأساسية منها.
ونص «بيت الدمية» من النصوص الإبسنية التي سبق للمسرح السوري أن تناولها من خلال عرض مسرحيّ أخرجه المخرج سمير صروي لفرقة المعهد العالي للفنون المسرحية قبل سنوات، وها هو اليوم بمتناول المخرج مانويل جيجي الذي قدمه للمسرح القومي مؤخراً.
في الحكاية
يقدم العمل صورة متناقضة للعلاقة الزوجية غير المتكافئة بين زوجة تفعل المستحيل كي تحافظ على البنية الاجتماعية والاقتصادية لبيتها ولأفراد أسرتها إلى درجة تدفعها لأن تقوم بعملية تزوير توقيع والدها، وبالتالي وضع نفسها تحت رحمة شخص يستغل نقطة الضعف هذه ليقوم بعملية ابتزاز تنتهي بوصول علاقتها مع زوجها إلى طريق مسدود، واتخاذها القرار الحاسم بترك بيت الزوجية، وزوج أثبتت الوقائع أنه مستعد وبكل بساطة لنسف كل ما قامت به الزوجة من أجله عند أول خطأ ترتكبه ولو بحسن نيّة.
السمة الأساسية في شخصية الزوجة يكشف عنها العرض منذ دقائقه الأولى عندما يركّز على ميلها إلى التبذير، في الوقت الذي يبدو زوجها فيه ميّالاً إلى التوفير في تمهيد هَدفَ إلى تفسير قيام الزوجة في وقت سابق بالسعي نحو الحصول على أموال بطريقة غير مشروعة، وهذه النقطة بنى العمل نفسه عليها وانطلق منها كي يكمل بناءه الدرامي عبر مجموعة من المَشاهد المتوالية التي أضاف كل واحد منها جديداً وصولاً إلى مشهد النهاية المؤثّر والمتمثّل ببقاء الزوج وحيداً.
.. وشخصيات أخرى
إضافة إلى شخصيتَي الزوج والزوجة أبرز العمل الشخصيات الأخرى التي لا يظهر سوى جانب واحد منها وهو الجانب المتعلق بمدى وطبيعة ارتباطها بهذه الأسرة، فشخصية الدكتور على سبيل المثال تشكّل صمّام الأمان بالنسبة للأسرة ولاسيما بالنسبة للزوجة التي ترى فيه الشخص الذي يمكن الوثوق به، وعلى النقيض تماماً تقف شخصية الرجل الذي يحاول ابتزاز سيدة البيت فهو مصدر توتّر دائم، تحرّكه مصالحه الشخصية واصطدام هذه المصالح بما يحاول الزوج تكريسه من علاقات عمل نبيلة وبعيدة عن أية شبهة، أما شخصية السيدة صديقة الزوجة فقد كانت أحد العوامل المحرّكة للأحداث بشكل غير مباشر، وبذا يكون العمل قد استفاد من كل الشخصيات التي وضعها على خشبة المسرح وبشكل شبه متساوٍ، الأمر الذي وفّر الإمكانية الحقيقية لخلق توازن فيما بين الشخصيات من حيث القوة والتأثير في مجرى الحدث وتحوّلاته.
تعامل العرض مع المعطيات المتوفرة بين يديه بكثير من الموضوعية وحاول أن يركّز على المفاصل الأساسية وأن يضيء الجوانب التي تشكّل الأساس الذي يعتمد النص عليه، مع التأكيد على أن المجال كان مفتوحاً للعمل أكثر على تعزيز الإحساس بالشخصية وطبيعة سلوكها ودوافع تصرفاتها عند الممثلين.
بطولة النص
ومما لا شك فيه أن تركيز العرض على النواحي الجمالية المواكبة لما يتابعه المشاهد من أحداث كان واضحاً على الرغم من أن البطولة في هذا النوع من الأعمال المسرحية منعقدة للنص من دون منازع، وأتت عناصر العرض الأخرى لتعطي الجمالية البصرية للعمل، فكان الديكور حميمي المفردات والتفاصيل معبّراً عن طبيعة سكان المكان، كما أن الإضاءة بألوانها الزرقاء والصفراء كانت بدورها لاعباً بارزاً في العمل، ولاسيما في بعض اللحظات الحساسة، أما الموسيقا فشكّلت المعادل الفني السمعي لما يعتلج في دواخل الشخصيات من مشاعر وأحاسيس.
من جديد ينبغي التأكيد على أن عودة المسرح القومي إلى عيون النصوص المسرحية العالمية أمر في غاية الأهمية بعد المعاناة المريرة من النصوص الهجينة التي شهدتها مسارحنا في السنوات الأخيرة.
جوان جان
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد