بين ثورتين ودمشق ما زالت واقفة
.. ولقد أدركت في طفولتي زمناً كان فيه أهل قريتي يقدحون النار من حجر الصوان ليشعلوا السراج الذي يستضيئون بنوره إلى جانب القرآن الكريم و نهج البلاغة وأسرار آل البيت.. وكانت أيديهم بخشونة حوافر خيولهم وأظلاف ماعزهم من قسوة العمل وشظف الحياة؛ وكانوا أبرياء صادقين يخشون من الحلفان باسم الله فيقولون «وَه» بدلاً من «والله» ويغطون أفواههم بأيديهم عندما يضحكون خجلاً من تصاريف حياةٍ مغمسةٍ بالألم والشقاء، قبل أن يثوروا على العصملي ومن بعده ضد الفرنسي ويوقعوا على وثيقة الاستقلال التي تؤكد وحدة الأراضي السورية وعاصمتها دمشق الفيحاء.. في هذا المجتمع الريفي الخام بَشَّر أكرم الحوراني ببعث روح الأمة وثورة الكادحين كما بشَّر أنطون سعادة بقيامة السوريين من رماد الفينيق.. في تلك الأيام كانت سوريا كلها ريفاً كادحاً باستثناء دمشق وحلب اللتان كان لهما هوية مدنية.. وعلى أيدي الريفيين قامت ثورة البعث التي قادها معلمون كبار تخرجوا من السوربون قبل الحاج برهان غليون بزمن طويل: زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وصلاح البيطار..
من كل هذا الحماس وهذه البراءة الريفية جاءت ثورة آذار، ثم انتهت إلى الحضيض بسبب تحالف العسكر والتجار وسماسرة الاستعمار، فكيف بثورة اليوم، وليست ثورة، وإنما احتجاجات شعبية بدأت عفوية، ثم ركبها دهاقنة ودجالون وشراميط وسلطويون سابقون وفاشلين أنصاف موهوبين ودكنجية طموحين ومجرمين مخضرمين وسلفيين لاحقين على الإخوان المسلمين، نعرف ماضي أغلبهم علم اليقين وكيف تمولهم وتدعمهم الدول النفطية والاستخبارات الغربية وسفراءها وجواسيسها: إنها ثورة على السلام الأهلي حركت كل هذا الخراء الطائفي والحقد الاجتماعي والقتل الأعمى مع التنكيل والتمثيل بهذا الجسد الذي خلقه الرب على مثاله وصورته.. وكما في الثورة الرومانسية السابقة نأت المدينتان حلب ودمشق عن التورط في الثورة الريفية اللاحقة، لأنهما تعلمان بأن الريف لا يطوّر المدينة وإنما المدينة هي من يرفع مستوى الأرياف الملحقة بها وليس العكس...
هكذا يعاقب الشيطان سوريا بأبنائها كما عاقب عدوه آدم باقتتال ولديه وما زالت ذكرى نزاعهما باقية على ذرى قاسيون.. وكذا الاستعمار ينتقم منها لمواقفها منذ أيام الصليبيين وصولاً إلى الإسرائيليين، وأبرياءها يتساقطون زهرة إثر شجرة، وأقدام الانتقام تدوس رؤوس عشبها وتستدعي صحراءها من زمن الجاهلية السعودية والانحطاط العثماني والاستعمار الغربي، فأين المفر؟ ولا مفر سوى الاحتكام إلى العقل بدلا من أعمال القتل، فتعالوا إلى كلمةٍ سواءَ بينكم من أجل إنقاذ بيتكم وأسرتكم إذا كنتم تعقلون..
نبيل صالح
التعليقات
الى ( السيد ) ابراهيم : أعتقد
Pagination
إضافة تعليق جديد