ثمانية مخرجين غيّروا وجه الفن السابع
رغم انتمائهم إلى الحركة ذاتها، تختلف أساليب المخرجين الذين تحتفي بهم جمعية «متروبوليس» تحت عنوان «وقت للحياة: ثمانية من طليعيّي الموجة الجديدة». ما زالت تجمعهم اليوم، ربّما، دمغة «سينما المؤلف»، كما جمعتهم منذ البدايات النزعة إلى القطيعة والتجديد، وتلك الرغبة في تجاوز السينما السائدة بقوالبها ومفرداتها الجماليّة. عدا ذلك، يمكن القول إننا أمام تجارب وعوالم فنيّة مختلفة تماماً ـــ بل ومتناقضة أحياناً ـــ في ما بينها.
إريك رومير (1920 ـــ 2010)، شاعر الصورة، بدأ ناقداً في مجلة «دفاتر السينما». وبعد عمله في التدريس والصحافة، تولّى مسؤولية المحرر الرئيسي في مجلة «دفاتر السينما» إلى جانب زملائه. في شريطه القصير الأول «تقديم أو شارلوت وقطعة اللحم» (1951) الذي يظهر فيه غودار ممثلاً، نرى شارلوت التي تستعد لمغادرة البلدة. قبل ذلك، تذهب إلى شقتها لتناول وجبة طعام. أثناء إعدادها قطعة اللحم، يحاول والتر (غودار) أن يرطب الأجواء بينهما كما يبدو، ويحسّن العلاقة قبل أن تغادر. يمثّل هذا الفيلم مدخلاً إلى لغة رومير السينمائية الصعبة التي تحتاج إلى الصبر. الشخصيات في أعماله مثقفة ومن الطبقة الوسطى. أفلامه في معظمها حكايات درامية وكوميدية مليئة بالحوارات التي لا تنتهي، تستكشف الحالة الإنسانية في العلاقات والحب والجنس.كلود شابرول (1930 ـــ 2010) الأب المؤسس للموجة الجديدة، وأول من أخرج فيلماً طويلاً في إطارها، يهتم أيضاً بالعلاقات بين شخصياته. أفلامه ملأى بالإثارة والقلق، ينظر إلى شخصياته بعين المراقب العارف اللامبالي. تأثره بهيتشكوك واضح في أفلامه (أنجز مع رومير كتاباً عنه بعنوان «هيتشكوك»)،لكنّه ليس الوحيد بين رفاق «الموجة الجديدة»، فكتاب تروفو عن معلّم التشويق والرعب البريطاني يُعَدّ مرجعاً أيضاً في هذا المجال. شريط شابرول الأول «سيرج الجميل» (1958) مبني على فيلم هيتشكوك «ظل الشك» (1943)، وفيه يعود شاب ناجح من حياة المدينة إلى قريته، حيث يلتقي بصديق الطفولة الذي وجده سكيراً مدمراً. في هذه الدراما السيكولوجية، يفحص شابرول بعينه الباردة هذا اللقاء وما يترتب عليه من توبة وانعتاق متبادل.فرنسوا تروفو (1932 ـــ 1984) الذي بدأ بدوره في مجلّة «دفاتر السينما» العريقة عام 1953 بدعوة من الناقد أندريه بازان. عانى صاحب «جول وجيم» من طفولة قضاها في كنف بيت غير سعيد. وتبقى تحفته الروائية الأولى Les 400 coups («طيش الصبا» إذا شئنا اقتباساً أميناً) المستوحاة من طفولته الشقيّة، علامة في تاريخ الفنّ السابع. تأثره بجان رينوار (1894 ـــ 1979) جعل أسلوبه يحتفي بواقع الحياة. في فيلمه الروائي الثاني «أطلقوا النار على عازف البيانو» (1960) يقفز بين الإثارة والغموض والكوميديا، مثل موسيقى البيانو التي يعزفها شارل أزنافور في الفيلم. المغني الفرنسي يؤدّي هنا الدور الرئيسي كعازف بيانو يعمل في حانة ثم يتورّط مع إخوته في جريمة، وقد أراد تروفو عمله احتفاءً بأفلام العصابات في السينما الكلاسيكية الأميركية.عند جاك ريفيت (1928)، يتخذ التجريب السينمائي منحى أكبر. في أفلامه الطويلة، يمزج بين الأنماط السينمائية بطريقة مبهمة. يتداخل الروائي مع الوثائقي أحياناً. شريطه الأول «باريس لنا» (1961) يبحث في العلاقات الإنسانية، وتمثّل باريس في صيف 1957 مسرحاً لعدد من الشخصيات المثيرة للاهتمام.أنياس فاردا (1928) أو «جدّة الموجة الجديدة» كما تكنَّى، بدأت حياتها كطالبة للأدب وعلم النفس قبل أن تعمل في التصوير المسرحي والصحافي. فيلمها الثاني «كليو من الخامسة إلى السابعة» (1962) الذي صنعته بتشجيع من ألان رينيه، أطلق شهرتها عالمياً. توثق فاردا في الشريط ما بقي من حياة الممثلة والمغنية الشعبية الفرنسية كورين مارشان المصابة بالسرطان التي تنتظر نتائج فحوصها. تمزج هنا فاردا بين التوثيق الحقيقي والدراما. فاردا يسارية التوجّه، عكست ذلك في العديد من أفلامها التوثيقية؛ إذ تهتم بتسجيل الأحداث، سواء من خلال السينما الوثائقية أو الـ«دوكو دراما».يختلف أسلوب ألان رينيه (1922) عن زملائه بنحو أوضح. لم يكن رينيه ضمن طاقم «دفاتر السينما» الأصلي. السياسة لها حيز مهم وواضح، والقضايا التي يختارها تتعلّق دوماً بالمجالات الاجتماعية والسياسية. إضافة إلى ذلك، تمثّل الذاكرة والزمن عنصرين أساسيين في سينماه التي يبنيها وفق صور جمالية شعرية تعكس اهتمامه الرفيع بالأدب وبنيته الحوارية. من أشهر أفلامه «العام الماضي في مارينباد» و«الحرب انتهت» و«عمّي الأميركي». فيلمه الثالث «موريال» (1963)، يأخذ منحى أكثر عاطفية. إيلين الأرملة المهووسة بقصة حب عاشتها قبل عقدين، وبرنار الذي يعذبه ضميره نتيجة مشاركته في قتل امرأة أثناء خدمته في الجزائر. بروائية الشريط التي تعتمد على الوقت والذاكرة أيضاً، نتابع كيف تلتقي إيلين مجدداً بحبيبها السابق لتجده مختلفاً، وبرنار الذي يشاهد ماضيه على فيلم 8 ملم. كل واحد مشغول بذاكرته والوقت الذي يمضي.جاك دومي (1931 ـــ 1990) زوج أنياس فاردا، مختلف أيضاً، يخوض عالم الأفلام الموسيقية. عالمه مليء بالخيال والقصص الغريبة، ومتأثر بهوليوود أيضاً. في أحد أفضل أفلامه «مظلات شيربور» (1964)، نتابع في الشريط الغنائي جينيفيف اليافعة التي تخوض قصة حب سرية مع الميكانيكي غي الذي ترفضه أمها الأرملة.أما جان لوك غودار الذي بهر العالم منذ فيلمه الطويل الأول «على آخر نفس» A bout de Souffle، فقد خرج من النقد ليعود لاحقاً إلى النقد، لكن بالكاميرا. دائم التجريب والتغيير، يبحث في واقع الصورة ومحيطها الاجتماعي (راجع مقالة أخرى عنه في هذا الملفّ). كسر اللغة السردية التقليدية وأعاد تشكيلها بأسلوبه الخاص. أحب هوليوود القديمة وكره الحديثة، وهو منتقد دائم لصناعة السينما التقليدية. في «ألفافيل»، أكثر أفلامه شاعرية وغرابة، يمزج بين الخيال العلمي والأفلام البوليسيّة، حيث نتابع قصة العميل السري ليمي ورحلته في القضاء على الكمبيوتر الفاشي «ألفا 60» ومخترعه البروفيسور فون براون.
ضدّ الحرب والغياب
عن شريط «مظلات شيربور» (1964 ــــ فرنسا/ ألمانيا) الذي أدت بطولته كاترين دونوف ونينو كاستلنوفو ونال السعفة الذهبية في «مهرجان كان السينمائي الدولي».يقول جاك دومي: «إنّه فيلم ضد الحرب، والغياب، ضد كل ما نكرهه وما يكسر السعادة».
يزن الأشقر
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد