جسد رامبو الشعري عمارة لبرج بابل
نصرف حيواتنا بحثاً عن الأمان والطمأنينة، ونضحي بتواتر السعادة والشقاء ومكتسباتهما لأجل مستقبل غامض نحتمي بجدران أوهامه من صخب الآن وهديره، فلماذا لا نركن إلى الثقة وهدوء الانسياب في بحر الوجود... قلق النفوس الميتة ذاك هو ما يتقصى مكامنه الكاتب الأميركي هنري ميللر في كتابه "رامبو وزمن القتلة". ميللر باعتباره "رجل الأجواء المفتوحة"، يبحر في سيرة معلمه الشاعر الفرنسي "آرثر رامبو" بحثا عن ماهية الفن: الرؤية، التألق، الشجاعة، والإيمان، ليستقطر منها عبق الحرية الصرفة. يعد "رامبو" عينة من التصفية الذاتية للشاعر المعاصر، الذي وجد نفسه مضطراً للانسحاب أمام دوامة العتمة والفوضى؛ فحين لا يعود باستطاعة الشاعر التحدث إلى المجتمع، بل لنفسه فقط، يكون الانجراف الكبير قد حل. وفعل القتل الذي يطال جمالية الإبداع وروحانيته، سُيفقد التاريخ معناه، لينفجر وعد الدينونة، مثل فجر جديد مخيف، على وعي الإنسان. وصف "رامبو" في اللغة الرمزية للروح، كل ما يحدث الآن من غياب للنهج الإنساني الحق، وذهب "ميللر" إلى التأكيد أن ليس ثمة تنافر بين رؤيا "رامبو" للعالم وللحياة الأبدية، ورؤى مجددي الدين العظام. فخلق رؤيا جديدة للسماء والأرض، يبشر بشهوة الحياة الجديدة ويطالبها بأن تتلبس الحيوات، كي لا يغدو الوجود الأرضي مجرد مطهر أو جحيم. فكيف يبني الجسد الشعري لرامبو برجاً لبابل؟ الرجال الذين يعالجون الكشوفات ـ كشوف النفس ـ منحازون بعمق، إلى روح عصرهم، إلى تلك المشكلات التي تسم زمانهم، وتمنحه الميزة واللون، إنهم حكماء بطريقة جديدة، ولغتهم تبدو بالنسبة لنا سرية، إن لم تكن حمقاء، أو متناقضة. كان "رامبو" رجل زمنه الأكثر صدقا، فقد طابق قدره بأخطر المراحل التي عرفها الإنسان، عصر القوة الخالصة الصريحة، حيث ليس بالمستطاع مقاومة الشر، بل تقبله فقط! ولأن الشر يعود إلى عالم الأشباح، عالم الادعاء، لذا وُهب الإنسان نظراً ثانيا كي يبصر، عبر عالم الأوهام الكابوسي، والجهد الوحيد المطلوب منه، هو أن يفتح عيني روحه كي يحدق في قلب الواقع، لا أن يتخبط في مملكة الوهم والضلال. ومن هنا يعرف ميللر "الشعراء" بأنهم كل أولئك الذين يسكنون في الروح والمخيلة، أي يعيشون الإشارات والرموز، بينما نعيش وسط الواقعة الميتة، وحين ينذروننا بمجيء أشياء مقبلة، نصلبهم، لأننا نعيش في رعب المجهول. الطير الذهبي حين تقترب لغة الشاعر من لا تناهي الروح، تغدو موازية للصوت الداخلي، فتعكس تطور الروح الذي لا يكتسب بالتربية اللفظية، مما يعطي استخدام "رامبو" الفريد للرمز صفة العبقرية، ومظهر الاحتجاج الالتفافي على انتشار المعرفة المقبض، الذي يهدد بخنق نبع الروح. ومن هنا تتبدى ضرورة فتح القلب، حيث يجب أن يرسو الشاعر، ورمي المفاهيم الأدبية المسبقة، والوقوف مكشوفاً في عالم مسكون نهائيا بالوهم الفيزيائي، وهذا يستحضر مفهوم الهداية. يؤكد "ميللر" أن الإبداعات كلها واحدة في الجوهر، فأخوة البشر لا تتكون من التفكير المتشابه، ولا الفعل المتماثل، بل في إلهام الإبداع، لذلك يجب أن يموت الإنسان الخارجي، كي يكشف عن "الطير الذهبي" الذي يشق سبيله، محلقاً، نحو الألوهية. فهل حقق "رامبو"، الذي ناضل بكل قواه من أجل أن ينفذ إلى الآفاق المفتوحة لكينونته، نفسه إلى الحد الأقصى؟ نجح "رامبو" في أن يطرد نفسه من سماء الشباب، بعد أن هزمته أمه، التي تمثل له السلطة، وكل ما تنبأ به لنفسه في السنوات الثلاث التي منحته الإشراق، تحقق في سنوات التطواف، حين جعل من نفسه صحراء.. مضى "رامبو" إلى الضد، وأصبح نفس العدو الذي كرهه، تنازل، وأمسى إلهاً متشرداً، يبحث عن مملكة حقيقية، عن الواقع الحقيقي لكينونته، الذي أزهر الإيمان اليائس في الساعة الأخيرة. تصرفه يماثل تصرف القديس الذي يصارع طبيعته المتوحشة، ولربما كان يهيئ نفسه لتقبل العفو الإلهي الذي ازدراه، بكل حمق وجهل في شبابه: "معركة الروح وحشية كمعركة الرجال، لكن رؤيا العدالة هي بهجة الله وحده". عالم مدهش كان "رامبو" عازماً على أن يتحدى الرعب، ليكتشف كل وجه ممكن من الحياة، أراد عالماً "تعمل فيه الطاقة الهائلة طليقة"، أراد أن ينهك قواه حتى يحقق نفسه تماما، وأراد من طموحه أن يبلغ، حتى لو كان مستنزفاً كل الاستنزاف، حدود عالم مدهش، عالم لا يمت بصلة إلى العالم المادي الذي عرفه: "العالم المتألق للروح". ووسيلة هذا العالم لغة كونية، تتحدث من النفس إلى النفس، جامعة كل الروائح، والأصوات والألوان، رابطة كل فكر، مفتاحها هو الرمز، الذي لا يمتلكه إلا المبدع، إنها ألف باء النفس، أصيلة، محصنة، وبواسطتها يتصل الشاعر ـ سيد المخيلة ـ بأخيه الإنسان ويشاركه. ومن أجل تأسيس هذا الجسر، منح رامبو الشاب نفسه للتجريب.. اكتشف "رامبو" العالم الحقيقي طفلا، وحاول المناداة به شابا، وتخلى عنه رجلا، بعد أن حرم عليه الدخول في عالم الحب، فأمست كل مواهبه سدى، لكن جحيمه لم يتعمق إلى الحد اللازم، فشوي في المدخل، ولقد كان هذا الفصل فترة قصيرة جدا، لأن باقي حياته أصبح مطهراً.. إن إخفاقه لمذهل، وإن بلغه الانتصار، لكن المنتصر لم يكن رامبو، إنها الروح المتعطشة أبدا في داخله هي التي انتصرت! مأزق "رامبو" أنه حسب الخلاص في هيئة الحرية: "الفعل ليس حياة، لكنه طريقة لتبديد قوة المرء، ولإضعافه"، دون أن يدرك أن الخلاص لا يأتي إلا بالاستسلام، من خلال تقبل شروط الحياة، فطريق الجنة تمر عبر النار، وعلى المرء أن يبلغ الموت بكل اشتهاءاته، أن يبلغ نهاية قواه، أن يتعلم أنه عبد من أجل أن يتطلع إلى الانعتاق. يعزو "ميللر" امتياز الإنسان إلى قدر الوعي والمعرفة المقترن بثقل الذنب، فمهما كانت درجة المرء، فإنه يواجه مسؤوليات جديدة، وخطايا جديدة؛ إن الله بتحطيمه براءة الإنسان، يحوله إلى حليف قوي؛ لقد منحه قوة الاختيار، من خلال العقل والإرادة، والإنسان في حكمته، يختار الله دائما. مما يحتم على الحالم/الشاعر الوثوق في مقدرة المخيلة على صنع الجوهر، فهي وظيفته الأسمى التي تبلغه حدود الخلق.. الصفوة باعتبارهم مهرة، يجدون مأواهم أينما حلوا، إنهم يعرفون معنى الجحيم، لكنهم لا يستطيعون تحديد مكانه، حتى كوجود أرض، إنهم يستمتعون بالفواصل بين حالة وجود وأخرى، أما الأرواح الحرة، المعذبة ـ المولودة خارج الزمن والوتيرة ـ فلا تستطيع تفسير حالاتها الوسيطة، إلا بأنها الجحيم ذاته. كان "رامبو" من هذه الأرواح... فصلب بسبب استسلامه إلى غرائزه، لكنه لم يتخل عن مهمة المبدع في أن يتدفأ بالنور، بقي طاقة متدفقة، لكنها ليست طاقة مخلوق "مطمئن القلب". فتجربته الحياتية الواسعة لم تمض في العمق إلى الحد الذي يجعله يمنحها معنى. يبحث "ميللر" عن معلميه الروحيين بإصرار عنيد (دوستويفسكي، نيتشه، بوذا، رامبو..) ويسوق حكمتهم كدعم لمفهوم الرجل المكتمل، ودوره التنبئي في زمن القتلة، ففجر العالم، بالنسبة لرجل الله، هو المكان الذي لا يسكنه أحد، لأنه مملكة الاضطراب، حيث وضع نيتشه آلهته الساقطة: "في هذه المملكة لا نتبين الخير ولا الشر، إنها وادي الموت الذي تعبره الروح، الفترة المظلمة التي يفقد فيها الإنسان علاقته بالأكوان، وهي أيضا، زمن القتلة". حيث لم يعد الرجال ينبضون بالتشوف، إنهم يتدافعون ويتصادمون حقدا وبغضا، ولأنهم لا يملكون ما يدرعونه، فهم لا يعرفون الصعود، ولأنهم لا يملكون التوتر، فهم لا يأتون بغير رد الفعل. ضمن هذه الضبابية العاتمة ينتهي "رامبو" إلى إدراك سرابية الحرية الفردية المعزولة، حيث الفرد المنعتق فقط، هو الذي يعرف الحرية، لأنه ينتزعها تدريجياً عبر نضال بطيء شاق.. يقول بوهم: "حين أقرأ نفسي، أقرأ كتاب الله، وأنتم، يا أشقائي، الأبجدية التي أقرأُها في نفسي، لعقلي، وسأجدكم داخلي، وأتمنى من كل قلبي أن تجدوني أنتم أيضا"، الكلمات الأخيرة تعبر عن الصلاة الصامتة التي كان "رامبو" يرسلها باستمرار، من المتاهة التي خلقها لنفسه. مؤكدا أن الكبرياء "الخيرة"، للعبقري تكمن في إرادته التي يجب تحطيمها، فسر الانعتاق يكمن في ممارسة المحبة، فالمحبة هي المفتاح. يجمّع المجددون حلقات السلسلة العظيمة للأدب الخلاق، ويعيدون قيامة الإنسان داخل هيكله، لتغدو قبسات إلهامهم المنتثرة منارة للمنتظرين اللاحقين، وإيذاناً لهم بالبدء عند الآفاق التي تلاشوا فيها. ترجمة سعدي يوسف ـ التكوين 2011
جينا سلطان
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد