جويس منصور.. واحدة من وجوه الحركة السوريالية الأساسية
القلائل من قراء العربية يعرفون جويس منصور، الشاعرة السوريالية المصرية التي قال عنها الشاعر الفرنسي آلان بوسكي:
«ستجعلنا جويس منصور نقضي ليالي بيضاء في الرطوبة. آه! لا ينبغي تركها حتى في مستودع الأموات: بإمكانها إيقاظ الجثث.».
تعد جويس واحدة من وجوه الحركة السوريالية الأساسية التي تجددت دماؤها بعد الحرب العالمية الثانية ضمن ما اصطلح عليه اسم «الركب الثالث» بعد جيل المؤسسين وجيل ما بعد الحربين.
جذور حلبية
ولدت جويس في الإسكندرية 1928 لأبوين مصريين تعود جذورهما لمدينة حلب السورية، أقاما في مانشستر وعادا للاستقرار في مصر فور ولادة جويس.
أتقنت جويس منصور اللغة الانكليزية بحكم ترددها الدائم على انكلترا، ومع ذلك فقد التحقت بإحدى المدارس الفرنسية في القاهرة باعتبار أن الفرنسية تمثل انعكاساً للرقي الاجتماعي وقبل أن تكمل جويس العقد الثاني من عمرها كانت بطلة مصر في سباق المئة مترو القفز العالي.
في عام 1947 تعرفت إلى هنري نجار وتزوجته، لكنها فقدته في العام نفسه إثر حادث مروع وقالت عن ذلك: «توفي رجل تحت عجلات طفولتي».
في العام التالي تعرفت جويس إلى سمير منصور وتزوجته وجعلها تتقن الفرنسية. في تلك الفترة افتتحت «ماريا» صالونها الأدبي نادياً في القاهرة وكانت الأولى في فتح إقامتها الباذخة لأعضاء السوريالية المصرية التي كان يطلق عليها آنذاك «جماعة الفن والحرية» التي أسسها 1938 (جورج حنين، رمسيس يونان، وفؤاد كامل) وهناك تعرفت جويس بحنين وأندره بريتون واكتشفت الشاعرة روح الحركة السوريالية.
الزمن الإيديولوجي
عكست جويس منصور في شخصيتها وأدبها واقع الكوزموبوليتية الثقافية في مصر وخصوصاً في الإسكندرية حيث كانت تعيش جاليات كثيرة، برز فيها شعراء عرب كتبوا قصيدة النثر بالفرنسية وغفَّلها الزمن الإيديولوجي آنذاك.
أحدث صدور ديوانها الأول «صرخات» أواخر 1953 ضجة في الصالونات الأدبية في القاهرة والإسكندرية وحديثاً بطعم الفضيحة والصدمة أيضاً، فكتب عنها جورج حنين معجباً في جريدة البورصة المصرية قائلاً: «دون أي أدنى إعداد أدبي متأكدة من استخفافها تجاه المعايير الشعرية، أعطت جويس منصور لحدسها صوتاً نحن هنا في أجواء الكلمة التي تعد امتداداً للجسد من دون حلول تمكننا من المتابعة، لكل عضو من الجسد لغته كتدفق النسغ في النبتة كبركة دم».
أما السرياليون في باريس، فقد عدوا مذ ذاك جويس واحدة منهم إلى حد جعل جون ـ لويس بدوان jean – louis Bedouin أحد أعضاء الحركة وأبرز مؤرخيها يقول في كتابه «عشرون سنة عن السريالية» بأن صدور «صرخات» هو أهم حدث شعري عام 1954.
أما بريتون فقد علق قائلاً بأنه أجمل ما قرأ في حياته وكتب لها: «أحب سيدتي عبق الأوركيدا السوداء الفواحة من قصائدك...».
وقد عدت جويس ذلك بمنزلة يد ممدودة لها للالتحاق بالحركة، ومنذ ذلك الحين أصبحت جويس منصور صديقة بابا السرياليين الذي لم يكن يخفي أن المرأة هي ملهمته في كل أشعاره وانتقل هذا الإلهام إلى أكثر الشعراء والرسامين السوريالين.
حقق لها ديوانها الأول رغم توزيعه على نطاق ضيق ونسخ محدودة صيتاً مدوياً كما أكد نزوع شعرها السوريالي قبل انتسابها التنظيمي للحركة بعد هجرتها الاضطرارية لفرنسا. «إنه ديوان كتب بأكمله في أجواء مصرية دون الاطلاع على بقية تجارب السورياليين في الغرب» كما رشيد، حتى في كتاب عن جويس منصور «رغباتنا أمس أحلامك غداً» الصادر في المغرب 2005.
مكائد اليدين
أما جويس فقد أكدت في استجوابات عديدة أن قراءاتها الشعرية تكاد تكون منعدمة خلال إقامتها في مصر وبالنسبة لها «نولد سورياليين ولا نصير كذلك».
وتمشياً مع روح السوريالية أصدرت جويس ديوانها الثاني «تمزقات» 1955 ولاقت استحساناً واسعاً. ومع أزمة قناة السويس غادرت جويس مصر.. مضطرة لكن البلاد بقيت حاضرة في شعرها كفضاء استعاري... وكأسطورة شخصية.
فآثار جويس يمكن أن تعد ذاكرة: «العودة للصحراء بلدي اليابس والسري
الحياة الحياة بعينها.» من ديوان مربع أبيض 1965 لا يشكل هذا البحث عن الماضي، هذه العودة للصحراء سيرة ذاتية بمعناها التقليدي إذ لا تنتظم هذه السيرة أبداً في شكل أحداث ذات تسلسل خطي ولاحتى في شكل لحظات طبعت طفولتها بل تتخذ صفة وقائع آنية شديدة الاحتداد والالتصاق بالواقع الراهن.. حد الهوس لا يطبعها التعاقب بل التطابق بين الأمكنة والحقب حيث يفقد الزمان انسيابيته ليصير سكونياً في لحظات مركزة... وهكذا تنتفي في شعر جويس أية مؤشرات تسمح بتميز المابعد عن الماقبل.
ثقوب سوداء
في ربيع 1966 تنأى جويس بنفسها نهائياً عن الجماعة السوريالية بعد أن بدأت تدب فيها انشقاقات وصراعات هامشية أوصلتها لباب مسدود لكنها بقيت على صلة شخصية بأغلبية الأعضاء الذين رفضوا إعلان جون شوستر وحُّل التنظيم 1969 في خرق سافر لمبادئ العمل الجماعي من دون استشارة النشطاء في فروع السُّريالية في العالم.
كتبت جويس قصائدها بالفرنسية والإنكليزية وكان لها ما يزيد على أربعة عشر ديواناً شعرياً كان آخرها 1985 بعنوان «ثقوب سوداء» قبل وفاتها في 27 آب 1986 بعد صراع طويل مع مرض السرطان.
لم تتقصد جويس منصور قط صياغة كتاباتها في هيئة أعمال أدبية منشورة ولا ترك آثار تخلد اسمها. بهذا الصدد يقول ناشر أعمالها الكاملة في مقدمة المجلد: «كل من عرفوا جويس منصور يتفقون على ذلك: أبداً لم تنوِ ولا حتى اختارت كتابة النصوص المجموعة هنا. كانت المقطوعات النثرية والقصائد تأتيها عفو الخاطر إبان تجوالها في الواقع أو اعتكافاتها في الحلم، وهي نصوص تشتتها بعد ذاك مباشرة وكأنها تبدو حقلاً بالريبة بهذا الشكل. منذ وفاتها في 1986 وحتى اليوم، لم يكن الاطلاع على مجمل كتاباتها ممكناً إلا عبر التسلح بجلد طويل».
تتميز قصائد جويس بتحررها من جميع القيود على مستوى الشكل والثيمات (استيهامات، هوس، أحلام، وشبق) ومايزيد قصائدها تحرراً أنها تنفك من أسر العناوين، فهي نادراً ما تعنونها ضمن خيار ساد كثيراً لدى السرياليين.
كما أن قصائدها تنبني على جدلية العين واليد، وعلى مزيج من الفنون البصرية والكلامية، وبوسعنا القول إنها كانت ترسم بالكلمات لتصنع منها توليفات فنية كالكولاج مثلاً من دون أن تنسى تذكيرنا دوماً بأن السفر والحياة وحدة لا تنفصم.
حررت جويس منصور قصيدتها من الوقفات التي تفرضها علامات التنقيط، فكان ديواناها الأولان «صرخات»، و«تمزقات» لا يحويان سوى علامة تنقيط وحيدة هي النقطة التي تختم بها القصيدة، وحتى هذه النقطة الختامية تختفي أحياناً لترك الصمت والبياض يؤطر النص، أما في بقية دواوينها بعد عام 1955، فقط تخلصت نهائياً من علامات التنقيط لينساب النص من دون احتباسات. وهي بذلك تواصل تقليداً بدأه الشاعر الفرنسي الذي كان السورياليون يجلونه كثيراً وهو «كَيوُّم أيوُّليتر» في ديوانه «كحوليات» الذي أصدره 1912.
وعي حاذق
بل وحتى على مستوى بناء الجملة تكاد تغرب جويس منصور من أسلوب التوليف الشعري (الكولاج) كما هو معمول به عند الدادائين والمستقبلين قبل السورياليين كما يسمى بـ «الكلمات المتحررة» حيث تنبني القصيدة على رص الكلمات جنباً إلى جنب من دون رابط مع ترك الحرية للقارئ في تخيل ما يمكن أن ينتج من جماعها فن صور مثيرة للدهشة، بل يختار القارئ أحياناً بين خياري ربط بيت بالذي يليه أو الذي يسبقه.. بهذا الصدد يقول الشاعر السريالي والناقد الفرنسي «آلان جوفروا» المجايل لجويس وأحد أصدقائها الحميمين: «قصائد جويس تشكل فيلماً متقطعاً بوعي حاذق، أفكارها تبسط تتجول كالمسرنم في فضاء الصفحة».
يعد مشروع جويس منصور الشعري اشتغالاً في صلب البرنامج السوريالي الذي اختطه رائده «أندره بريتون» لهدم الهوة بين الحياة والقصيدة ذلك البرنامج الذي مازال قائماً ضمن مشروعية الحلم والحق في تحقيقه، ذلك البرنامج الذي يجد جوهره في مقولة بريتون والذي لاتخلو من نبوءات العرافين: «سنختزل الفن في أبسط تعبيراته، ألا وهو الحب».
تحاكي جويس منصور في نصوصها تلك الرغبة التي تغنى بها رائد الحركة السوريالية للقصيدة الإيروسية الناتجة عن الكتابة الأوتوماتيكية حيث تدفع نصوصها عبر كتابة أتوماتيكية إلى أقاصي حدودها عبر شلالات من الصور الشعرية الصادمة في عنفوانها والمثيرة للدهشة في تلقيها والتي تبلغ ذروتها في غناها البصري، ولهذا الصدد تكاد جويس منصور تلخص صنعتها الشعرية بهذا المقطع:
«إذا كان الحب ابن العين
النار ابنة الفراغ
فحتى الغابات تستطيع أن تعقد آمالها على ماء العرق المسكر اللاهب»
من ديوان الإنماء لسائق الآلات 1977
بل وتسير الشاعرة إلى أبعد من ذلك معطية للحرية وللفن كواحد من تمظهراتها دوراً جوهرياً إن لم يكن الدور الأوحد في تخليد الإنسان:
«سيهزم الإنسان الحر الموت»
قصيدة من ديوان عاصمة الجحيم 1976
العربي الذي يرتجف
ما يلفت الانتباه في سيرة جويس الشعرية أنها لا تنفي عن نفسها عروبتها ومنشأها في وسط مصري في لغة يغلب عليها الحسي، الذي ينفذ إلى جوهر كينونتها.
وهي إلى ذلك تعيد صياغة كثير من الأساطير المصرية القديمة في قصائدها كأسطورة أوزيريس و«سوبك المفترس» وأسطورة توت إلهة السماء. وهذا التجاور للأسطورة والواقع لا يأتي بحثاً عن تناغم مفقود بل امتداداً للماضي في الحاضر تمثلاً رمزياً للأسطورة كدلالة على سيرتها الشخصية.
رولا حسن
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد