حكاية حصار من حلب: جراح على تخوم نبّل والزهراء
الزمن الذي يمر في قريتي نبل والزهراء في شمال حلب أثقل بكثير مما هو خارجهما.
وجع الحصار لا يبارح صغيراً ولا كبيراً، وقرابة الـ65 ألف نسمة يعيشون بما هو أقلّ من كفاف النفس.
الغذاء بات محدوداً في الكمّ والنوع، والدواء سلعة نادرة، أمّا مسالك التهريب فباتت أكثر ضيقاً وخطورة، فالمجموعات المسلحة تعدم كلّ من يوصل كيس قمح إلى المدينتين (المواطن فايز رمضان (45 عاماً) أُعدم على يد عناصر ما يُسمى بـ«لواء التوحيد» في الأسبوع الثاني من رمضان بتهمة «تهريب» مواد غذائيّة لمدينة نبّل!)
الشهر المبارك يمر عصيباً على كل من لا يدعم مجموعات السلاح المعارض في ريف حلب الشمالي. والضغط الذي يصبه جيش الدولة عليهم يعكسونه بطشاً على من لا يملك حيلة لمواجهتهم. يفتكون بمن يُعارضهم في مناطق نفوذهم، و«يغزون» المناطق الأخرى مراراً وكراراً، من دون أن يُعيروا قيمة لأرقام القتــلى المهــولة في عبث هذه المعـــارك. وهــم علــى بســاطة تخوّلهم لتنفيذ أكثر الأجندات فوضويّةً..وضرراً بمستقبل الناس والوطن.
كلّ ذلك يتمّ باسم «الدين»، وهو الغائب الأكبر عن ساحة الأحداث الدامية.
القصف اليومي
يستهدف المسلحون القريتين يوميّاً بقصف عشوائي، وتوخياً لحصد أكبر عدد من أرواح أهلهما ينتظرون وقت التجمعات في شهر رمضان. صليتان رئيسيتان من صواريخ «غراد» وقذائف الهاون: الأولى وقت الإفطار، والثانية مع صوت أذكار السحور. والحقُّ أنهم أجادوا في هذا المكر السيئ، فحصيلة هذه الخطة «الرمضانيّة» أن ارتفع عدد الضحايا بشكل كبير، ما يتناقض تماماً ومعنى الرحمة الذي يختزنهُ الشهر الفضيل.
منذ مطلع رمضان المبارك وحتى منتصفه، تم إحصاء ما يزيد عن الـ170 صاروخا وقذيفة هاون، ويبدو أنّ قادم الأيام أكثر سوءاً إن لم يجد الحل العسكري أو السياسي طريقه إلى المنطقة.
عائلة أفطرت موتا
في شهر رمضان تعيش العوائل السوريّة أكثر لحظات التواصل حميميّةً، وسفرة الإفطار تحمل أكثر من معنى الطعام أو الشراب، لكن قلق الأحداث يخيم على الأجواء من دون ريب.
في نبّل اكتسبت سفرة الإفطار بعداً آخر، فالدماء التي نزفتها عائلة «حمشو» لحظة الإفطار كان لها لون حميمي أبلغ.
لم يستثن صاروخ الـ«غراد»، الذي أصاب غرفة المعيشة مع أذان المغرب، أحداً من أفراد العائلة. انتظرهم ليكتملوا عن آخرهم في غرفة واحدة، واقتلع الحائط الشرقي بمن يجلس خلفه.
أقسم الابن الذي بقي على قيد الحياة أنّ الانفجار المباغت دوّى في اللحظة التي أمسك فيها الجميع اللقمة الأولى، وصوت الأب يتهدج تعباً، وهو يتلو دعاء الإفطار.
ملأ الغبار عيون الصائمين المتحلقة حول مائدة متواضعة للغاية، في حين كانت الشظايا العمياء تلتهم جثث الصغار والكبار. وقبل أن يعي أحد ما حصل، كان خمسة من أفراد العائلة قد فارقوا الحياة.. معاً.
الجيران الذين راعهم صوت الانفجار هرولوا مسرعين ليعاينوا قدراً أخطأهم قيد أنملة، ويمدوا يد العون.. من يدري لعلّ القذيفة الأخرى تكون من نصيبهم.
خطف الموت جل أفراد العائلة دفعة واحدة: الأب أ. حمشو، الأم ف.الحايك، وبناتهما الثلاث، زينب وجميلة وزهراء.
من بقي من العائلة أثخن جراحاً.. وحين تعلم أن المستشفى الوحيد في القريتين فقير، حتى بأدوية التخدير وأدوات الجراحة، تدرك أن مشوار معاناة الجرحى قد بدأ للتو.
بشاعة الأمر أن الصاروخ، الذي أودى بعائلة كاملة من الصائمين لله، انطلق على هتاف التكبير للإله نفسه!، الأمر أشبه بسخرية القدر من مجتمع غاب عنه الوعي والتديُّن العاقل.
فقدان دواء بسيط .. يقتل طفلا
فقدان الدواء وجه آخر من وجوه المعاناة في نبّل والزهراء... يكاد المرض البسيط يصبح معضلة كبيرة، وليس من السهل أن ترى المرض يفتك بأحد أبنائك من دون أن يكون لك حول لمجرد إعطائه الدواء.
الطفل فوزي أيمن فواز، له من العمر أربع سنوات فحسب، أصيب بمرض معروف باسم «أبو صفار»، وهو مرض عادي شائع الانتشار، ويعتبر أخف مستويات التهاب الكبد، وله أدوية غير مكلفة، إلا أنه في حال تركته من دون علاج يودي بكبد الطفل، ويتلف هذا العضو المهم شيئا فشيئاً.
شهر كامل مر على أهله وهم يحاولون تأمين الدواء له من خارج القريتين، إنما من دون جدوى، فوصول الطوافات انقطع منذ 20 يوماً (بعد إسقاط الطوافة التي كانت تقل نائب مدير تربية حلب)، إلى جانب التضييق البري الشديد الذي شهدته فترة الحصار الأخيرة.
خلاصة المأساة، أن فوزي بدأ يذوي شيئا فشيئا أمام عيني أمه وأبيه، والليالي بدأت تطول بجانب أنينه المؤلم.
لم يكن من سبيل سوى الصبر، بيد أن الصبر لا يشفي عليلاً، وكبد فوزي ذي السنوات الأربع لم يكن ليصمد أكثر.. فبعد ليلة صاخبة من الوجع والصراخ غير المنقطع، قضاها الأهل الحائرون يخففون عن الطفل ألمه من دون جدوى.. طلع الصباح بهدوء غير مألوف في المنزل.
كانت الأم أول من راعه الأمر. أسرعت إلى فراش ولدها الذي لم يوقظها على صوت ألمه هذا الصباح، لتجده جثة باردة قد غادرتها الحياة.
استيقظ جميع الجيرة على صوت الأم، فبكاؤها لم يكن لينضب، وهي التي ترى موت طفلها يتأكد كل يوم طوال أسابيع. ودعوات الثبور على الظالمين المحاصرين كانت أبلغ من أي كلام آخر، غير أن المأساة لن تنتهي طالما أن الحصار يزداد وطأة وضيقا.
لم ينصت المسلحون المحاصِرون للنداءات الإنسانية المتزايدة حول إدخال الدواء والغذاء، والمنظمات الإنسانية تكاد لا تبصر الأزمات التي تمسّ بيئة تنتمي سياسيا إلى صفّ الدولة!، وأمام المشهد العام لا يسعك أن تتفاءل بحل قريب.
وفي السياق ذاته، تعتبر معضلة اللقاحات غماً آخر، فالدولة التي كانت تؤمن كل أنواع اللقاح للأطفال (السل، الحصبة، شلل الأطفال، أمراض الكبد، ..إلخ)، لم تعد قادرة على إيصال أي منها.
الأعوام القليلة المقبلة ستشهد جيلاً مثخناً بأمراض مستعصية، كان تلافيها لا يتطلب أكثر من جرعة لقاح بسيطة.
خلاصة الأمر أنّ الأزمة الإنسانية تجاوزت قنطرة الأمل الأخيرة، وليكن واضحا، فإن اعتيادنا المتزايد على سماع الأخبار المؤلمة عن القريتين، لا يخفف أبدا من معاناة الناس اليومية هناك، بل يكاد تزايد المخاطر واشتداد الحصار يذهب بما بقي من جلد الناس وتصبرهم، لولا أن الإيمان ربط على قلوبهم حتى قطرة الدم الأخيرة.. إن اضطرهم الأمر.
علي عبد المجيد
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد