حلف الفضول الشامي معاصراً

17-05-2013

حلف الفضول الشامي معاصراً

الباحث والمدقق في السيرة النبوية، والملاحق لـ«إشارات، أي إشارات يمكن أن تقود إلى نظرية سياسية إسلامية سيصاب بالإحباط، فما عدا ما ذكر عنه «صلعم»، وهو يتذكر شبابه المبكر، وحين يذكر «حلف الفضول» الإشارة الأولى إلى تأثر المكيين بالنظام السياسي في الشام البيزنطي، وأعني «مجلس الشيوخ»، وكانت مكة قد كبرت عن مجرد محطة قوافل، ومحج حجاج، وتعقدت الحياة فيها، وصار لابد من وضع حد لظلم الأقوياء للضعفاء، ولظلم الأغنياء للفقراء، فجمع عبد الله بن جدعان كبراء مكة، ودعاهم إلى إنشاء هيئة سياسية مبكرة للأخذ على أيدي الأقوياء، واستعادة حقوق الضعفاء منهم، وأسمى هذه الهيئة ب: حلف الفضول، والتي يحق لنا أن نفهم من كلمة الفضول «الأفاضل» فيها المصطلح اللاتيني «الشيوخ» senates ، والتي قال عنها الرسول الكريم: لو دعيت إليها لأجبت!
ماعدا هذه الإشارة إلى السياسة والتي ربما كانت الوحيدة، فليس هناك أية إشارة إلى السياسة، أو إدارة الدولة حين تجيء، وهكذا فوجئ المسلمون بانتصاراتهم الباهرة على الامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، وفوجئوا بشكل جديد من التعامل مع المواطنين ومع الرعية، ووجدوا أن شكل شيخ القبيلة للحكم، ومهما كان شيخ القبيلة عادلاً، فهو ليس كافياً لحكم امبراطورية تجمع أخلاطاً من الأديان، والأقوام، واللغات، وهكذا ورث «الملك العضوض» «شيخ القبيلة».
ما ذكرني بهذا الأمر هو كثرة الحديث المتواتر عن أن لا مشكلة قادمة مع تغير الأنظمة، وألا خوف من انعدام البديل، فالبديل كان موجوداً دائماً، لكن الاستعمار الغربي، والاستقواء بالغريب عدو الشرق والإسلام أعمياننا عن الاهتداء به، وما اهتدينا بهذا البديل مرة إلا وأنجدنا، ثم يبدأ حديث عولمي مريح، للحق، ولكنه غيرواقعي، فهم يستنجدون روحياً بمغول الهند وإنجازاتهم المعمارية الممعنة بالحضارة «تاج محل»، وفتوحاتهم للهند، ويستنجدون بيوسف بن تاشفين وانتصاراته على الإسبان في إسبانيا، ومدّه في عمر الأندلسيين لأربعمئة عام أخرى، متجاهلين حتى النظرية الخلدونية المتحدثة عن انهيارات الدول المسترخية للملذات وحلول أمم «ذات عصبية»، أمم جادة، أو ذات مشروع علمي، أو قوة حيوية، محلها، والأهم متناسين وقافزين فوق الإنجازات الكبرى التي حققها الإنسان في القرنين الماضيين من إسقاط ملكيات، ومن إقامة جمهوريات، وهيئات للدفاع عن حق الإنسان، كل إنسان، في الخبز والتمثيل التشريعي والحرية التي لا تؤذي أو تضر حرية المجتمع أو الآخر.

أي إسلام

لكن متحمسهم يهتف: الإسلام هو الحل.. لكن عن أي اسلام يتحدثون، والحديث هو الآن في صلب السياسة، وليس في أمور فقهية، أعني ليس عن الطهارة والنجاسة، وهيئة الوقوف للصلاة، واستقبال القبلة، بل الحديث في السياسة، والسياسة الأرضية التي قال عنها النبي الكريم بما معناه: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، ولنعترف بأن السياسة هي من شؤون دنيانا، فحينما فوجىء المسلمون بوفاة الرسول الكريم، وازدادت مفاجأتهم حين اكتشفوا أنه لم يترك تعليمات للوراثة، أي أنه لم يترك خليفة... ومنذ هذه اللحظة، أي منذ هذا الاكتشاف بدأ ت الانشقاقات السياسية «ولن أعطيها أي تسمية أخرى مما ستحملها لنا القرون والنزاعات والتاريخ» مذهبياً، ودينياً، وتكفيرياً.
الإسلام هو الحل، وتاريخ الأربعة عشر قرناً التي انقضت هي تاريخ الإسلام، وهي أيضا تاريخ الصراعات مع المسلمين، وبين المسلمين، وتكفير المسلمين للمسلمين، فكيف يكون الإسلام هو الحل السياسي إذن! ولم لا نكون أكثر واقعية، فنفصل بين الشكل السياسي للحكم، وهو توافق أرضي بشري، وبين العلاقات الأرضية بالسماء، من عبادات، وأداء لشروط العبادة الحقة «الديانة» بما هي ديانة، تتضمن قوانين الأحوال الشخصية، والعبادات، وطقوسها، أي كل ماله علاقة بالدين، أما السياسة والرياسة والعلاقات بين المواطنين، والعلاقات بين الدول، والعلاقات مع المصارف الدولية، فنتركها للأرضيات، أي للتوافقيات، والحقيقة أنها كانت كذلك دائماً، وإلا فماذا نسمي المعاهدات بين الإسلام المبكر الأموي، وبين البيزنطيين، وبين العباسيين والبيزنطيين، وبين الفاطميين والصليبيين والبيزنطيين إلخ، ولنعد إلى بواكير الإسلام، فنسأل: أفلم يختف الصحابي الجليل «سعد بن عبادة سيد الأنصار» حين أصبح وجوده عبئاً على قريش؟ هل كان هذا الاختفاء من أمور الدين، أم من «شؤون دنياكم» التي تركها لنا النبي، أفلم يقتل المسلمون خمسة من أطهر المسلمين، الخلفاء:عثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز و..الحسن، والحسين؟ فهل كان هذا من الحل؟ وكم من الخلفاء الأمويين، والعباسيين، والخلفاء، والأمراء الأمويين بالأندلس، والخلفاء الفاطميين بمصر، والأمراء الأيوبيين، والحكام المماليك الذين أجبر معاصروهم على القبول بهم حكاماً ؟ كم منهم قتل، وكم منهم سـُمل حتى يفقد الأهلية للحكم؟ ثم يأتي من يقول الإسلام هو الحل السياسي؟
ولنذكر أنّا نعيش في القرن الحادي والعشرين، القرن الذي جرب الإنسان فيه وقبله بقرن كل أشكال السياسة، وكل أشكال الحكم، فجربوا الفاشية، وجربناها، وإن لم نسمّها، وجربوا الشيوعية، وجربناها، وإن لم نسمّها، وجربوا الحكومة الدينية، وجربناها، وأخفقنا في كل تجاربنا، السماوية منها والأرضية إلا الحكم المملوكي الذي عشقه حكامنا، فبه يملكون كل شيء، حيث يكون للحاكم كل شيء، الأرض وما عليها، وما تحتها «الكنوز والمعادن، وأخيراً النفط والغاز»، و.. البشر، والحجر، والسماء، وما تحت السماء، وهنا حط بهم الجمًال، فأخذوا يزينون لنا هذا الشكل من الحكم. إنه العدل المطلق، إنه الخلافة. أفلم يكن الخلفاء ممثلي العدل، فبكلمة منهم يغنون الفقير، ويحررون الرقيق. أفلم يكن هارون الرشيد يحج سنة، ويغزو سنة؟ أفلم يستجب المعتصم لاستنجاد امرأة مسلمة من عمورية حين هتفت «وا معتصماه !!» ولكن رواة هذه الحادثة لم يقولوا لنا بمن هبً لنجدتها؟ وكان قد طرد الجند العرب من ديوان الجند العباسيين أصلاً، واستبدلهم بالأتراك الذين لم يكونوا يفهمون كلمة «وامعتصماه» فيدركون البلاغة فيها، فيهبون لنجدتها.
وإذن، فهل الإسلام هو الحل؟ وعن أي إسلام يجري الحديث إذاً، عن الإسلام المملوكي حين استولى المماليك على كل ثروات المجتمع، من أرض وثمارها، وصناعة وجدواها، فكل معاصر قصب السكر كانت إقطاعاً لهم، ومن ضرائب ومكوس على التجارة بين الشرق والغرب فجعلوها إقطاعاً خاصا لهم، وكانت الأميرة منهم إن حجت حجً معها الألوف، وفيهم سيًاس الجمال الكثيرون، والفلاحون، والطباخون، والمبخّرون، أما كثرة الجمال فكانت ضرورية، إذ فيهم الجمال تحمل الماء الذي سيسقي جرارالبقدونس، والكزبرة، والبقلة، والشمر، والطرخون، وكانت إحدى الجواري الشركسيات قد تدللت على السلطان متشهية الطرخون، فاستجلبه لها من أقاصي الأرض، وحينما حجت صحبت معها في رحلة حجها فيما حملت عشرين جملاً لاتحمل إلا الجرار المزروعة بالطرخون الغض يحتاج إلى السقاية كل بضع ساعات، ولنا أن نتخيل عدد الخدم والسقاة والسياس الذين ستحتاج إليهم هذه الجارية التعيسة التي اشتريت طفلة، وحملت إلى مصر جارية لتقرأ على بابها: «ادخلوها بسلام».... وهذا كله ليس حسداً!، ولكنا لوعرفنا كيف كان الفلاحون يعاملون ليترف المماليك هذا الترف، الفلاحون الذين لا يعرفون مذاق اللحم إلا في العيد الكبير، ولايلبسون الثوب الجديد إلا في الأعراس. ألا يجب أن نتساءل: وإذن، هل الإسلام هو الحل؟ وهل المهم هو الإنسان؟ أم المهم هو النص الفقهي وضعه فقهاء السلطان حسب التعبير المعاصر، والنص كما نعرف حمـّال أوجه، هذه الأوجه التي رأيناها في كثرة التفاسير، وكثرة الانشقاقات التي لم تعط الإسلام إلا ضعفاً على ضعف حتى كان الاصطدام المدوي مع طلائع الانفجار الفرنسي.
في بدايات القرن التاسع عشر، أي في زمن إسقاط الثورة الفرنسية عزلة الشعوب عن بعضها، وعزلة الحلول لمآزق البشرية عن بعضها، في حروب بونابرت الكثيرة التي خلطت القيم، وقدمت للمرة الأولى حلولاً جديدة للمأزق الحضاري الذي عاشته شعوب مصر والشام في الإيمان المطلق بأن «الإسلام هو الحل» والوحيد، كما أصر مثقفو السلاطين قبل رعب الجبرتي وزملائه من العلماء الأزهريين حين لبـّوا دعوة العلماء المصاحبين لبونابرت لزيارة مخبرهم.

الحرية

استعرض العلماء المرد من لابسي البنطلونات الضيقة حتى لتبدي مؤخراتهم وكأنها العارية، استعرضوا أمامهم بعض تجاربهم المخبرية، من ماء يغلي ولانار، ومن ماء يفرقع مطلقاً ناراً ولانار، ويكتب الجبرتي حيرة المثقف المسلم، وخوفه بعد هزيمة عساكر المماليك أمام المرد من الفرنجة ورعبه من أنه لم يعد مالكاً للحقيقة المطلقة، وليبدأ للمرة الأولى في مناقشة الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية، وتصل هذه التساؤلات أقصاها بإعلان المفكر المسلم محمد عبده: في فرنسة لقيت مسلمين «ويعني العادلين، الناصحين، الجادين في أشغالهم» ولم ألق إسلاماً !
كانت أوروبة الكاثوليكية قد أعلنت يوماً أن الكاثوليكية هي الحل، ثم جاء بونابرت ليقول إن الكاثوليكية ليست هي الحل، فهناك حل آخر، وأصغت أوروبة، أو لنكن أكثر منطقية، فنقول إنها أصغت لمسيرة الحياة، لا إلى مواعظ الكهنة، فصنعت ثورتها العلمية والاقتصادية، وسادت العالم، وكان الاصطدام الكبير بين الغرب والدول الإسلامية، فانهزم الشكل القديم من الحلول «الدين» في نافارون في اليونان، وتغير مجرى التاريخ.
قبل احتلال بونابرت لمصر، وقبل نافارون كانت الحلول في الدول الإسلامية واضحة «الإسلام»، وكانوا مؤمنين بأن المذابح التي يقوم بها الملوك من مماليك، وعثمانيين، وشاهنشاهيين ماهي إلا جزء من الحل، أفلم نؤمر بالطاعة لولي الأمر؟ أليس ولي الأمر أعرف منا بمصلحتنا؟ أليست المذابح والحروب الداخلية والأوبئة والمجاعات عقوبة يعاقب الله بها عباده المقصرين؟.. لكن البورجوازية جاءت لتقول: الحل في الحرية للبشر، والحل في المساواة بين البشر، والحل في الأخوة بين البشر، ثم كانت الثورة الثانية بعد أكثر من قرن لتقول: لكل حسب عمله، لاحسب مولده أو بحسب مورثه، وبعد سبعين سنة بهتت التجربة، وكان لابد من البحث عن حل جديد.
جربنا في عالمنا العربي كل التجارب إلا الديموقراطية «مجلس الشيوخ» التي تمنى الرسول الكريم لو أنه دعي إليها» ولو دعي إليها لأجاب، فلم لا نستجيب والفرصة أمامنا، الديموقراطية، والمجالس التمثيلية «حلف الفضول» وحقوق الإنسان، أم أنه مكتوب على المسلمين أن يكونوا أدنى من بقية الأمم.

خيري الذهبي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...