أضواء على المذهب الإسماعيلي
سامح عسكر:
ألقينا الضوء فيما مضى على مواطن من مذهبي “الزيدية” و”الإمامية“، واليوم مع الضلع الثالث من مذاهب التشيع، وهو المذهب “الإسماعيلي” الذي يكمن خلافه الجوهري مع الإمامية، أو بالأحرى يمكن القول أنه منشق عن الإمامية في العصر العباسي الأول.
بدأت القصة بعد وفاة الإمام “جعفر الصادق” (80- 148 هـ) وهو الإمام السادس لدى المذهب الاثنا عشري؛ فكان أكبر أبنائه “إسماعيل”، الذي يُفترض أن يصبح إمامًا بعد أبيه، لكنه توفي قبل أبيه بعشر سنوات (138هـ)؛ في حين بقي أخوه الأصغر موسى المُلقّب بالكاظم حتى عام (183هـ)؛ فافترق الشيعة إلى فريقين: الأول يبايع إسماعيل إمامًا بدعوى قُربه لأبيه وأكبر إخوانه وأصلحهم للإمامة، بينما الثاني يقول إن إسماعيل مات مبكرًا فسقطت إمامته لتصبح محصورة في موسى، ويرد الإسماعيليون على ذلك بأن إسماعيل لم يمت مبكرًا كما هو مشهور؛ بل مات بعد أبيه، وعلى ذلك فإمامته صحيحة..
يرد الإماميون على تلك الدعوى بأن إسماعيل مات مبكرًا، والذي يزعم أنه مات بعد أبيه وتعصب لإمامة إسماعيل هو “محمد بن أبي زينب المقلاص”، المعروف “بأبي الخطاب الأسدي” مؤسس وزعيم فرقة الخطابية، وهي فرقة ملعونة في المذهب الاثنا عشري، ومشهورة بأحد فرق “غُلاة الشيعة” في التراث الإسلامي ، يصفها الشيخ “جعفر السبحاني” أحد فقهاء الإمامية بقوله: “قلنا إنّ إسماعيل بن جعفر -عليه السَّلام- بريء من هذه الوصمة، وإنّما هي أفكار موروثة من محمد بن مقلاص المعروف بأبي الخطاب الأسدي وزملائه، نظراء المغيرة بن سعيد، وبشار الشعيري، وعبد اللّه بن ميمون القداح، إلى غير ذلك من رؤساء الباطنية، وقد تبرّأ الإمام الصادق -عليه السَّلام- والأئمّة المعصومون من هذه الفرقة في بلاغات وخطابات خاصة إلى أتباعهم ولعنوا الخطابية، ولم نعثر لهم على كتاب تفسيري يفسر القرآن برمته، وإنّما حاولوا تفسير الموضوعات الواردة في القرآن والأحاديث وأسموها بباطن القرآن” (المناهج التفسيرية في علوم القرآن 6/ 9).
بينما يرد الإسماعيليون بأن دعوتهم توحيدية عقلانية قام عليها في الخفاء الإمام “إسماعيل بن جعفر” في حياة أبيه وبمعرفته وموافقته ومساعدته، وأن دعوة إسماعيل نمت وترعرعت في ظل إمامة أبيه؛ فنهلت من معرفته وحكمته وحركت العقول فأخرجتها من الضيق إلى السعة، وبمساعدة دعاة أربعة؛ هم “ميمون القداح، ومبارك بن جعفر، والمفضل بن عمر، وحمدان بن أحمد” ويسمون هؤلاء الأربعة (بالدعاة الحُرُم)، لمنزلتهم الكبيرة في المذهب الإسماعيلي؛ في وضع يشبه وضعية الصحابة بالنسبة للرسول في الدين الإسلامي ككل (راحة العقل- أحمد حميد الدين الكرماني صـ 22).
ولا نُسلّم لجعفر السبحاني بمطلق هذا القول؛ فالذي أحدثه الإسماعيليون في التاريخ الإسلامي لهو أعظم أثرًا وأكثر إنتاجًا وأطول زمنًا من الذي أحدثه الإماميون؛ فإلى الإسماعيلية تنتسب فرق سياسية كثيرة “كالقرامطة والحشاشين والأغاخانية” وأنشأوا دولاً “كالفاطمية والسامانية”، والعديد من الفلاسفة كابن سينا وإخوان الصفا وأبي حاتم الرازي وأبي يعقوب السجستاني ..وغيرهم، واقتحم مفكرو الإسماعيلية ميادين الجدل والفلسفة والعقائد، ودخلوا علم التفسير حتى اشتهرت عنهم طريقة “الباطن”، التي تعني عدم التسليم بظاهر النصوص وتأويل المتشابه منها بقرائن على طريق المجازات العقلية واللغوية، أو بطريق العلل المخفية التي عرفها أهل الرأي الأوائل بالقياس الخفي، الذي يعني في مضمونه أن للنص دلالة تضمن خفية ومقصودًا جوهريًا لا يظهر للعقل والحواس عند قراءته، ولكن بالتأمل العرفاني والروحاني وصدق التواصل مع الله، حتى سميت تلك المدرسة بالعرفان.
وهو العلم الذي يفترض أن هناك عقلاً لم ولن يبلغه أي بشر سوى (الأنبياء والأولياء) سموه بالعقل الكلي؛ فيقولون إن العقل العادي يُبصر جزئيًا بعض جوانب الواقع، لكن العقل الكلي يسمو عليه ويُبصر الواقع ككل، ولا يتم بلوغ ذلك المستوى بمجرد البحث والتأمل؛ بل بالنشاط الروحاني والسلوك، وتكمن فكرة النشاط الروحي عند العرفانيين في اكتشاف ما يُسمّونه (بالروح العقلانية)، التي تُضعف النفس السفلية؛ فالروح العقلية هي التي تتسامى في الوجود، وتبحث عن مواطن الخلل في الحياة وعلاج المُشكلات بالحكمة، وهذا لا يحدث سوى بالزهد ومقاومة الشهوات والطمع الذين هم علامات للنفس السُفلية.
من ذلك نرى أن المذهب الإسماعيلي أعقد وأغمض مما يتصوره البعض؛ فقوامه هو الفلسفة كما يبدو، وعقول البشر صممت بطريقة أبعد عن التفلسف؛ فمن الصعب إذن فهم المذهب الإسماعيلي دون إدراك ماهية العرفان وممارساته وتطبيقاته في التاريخ، ومن ثم يمكن فهم ما عليه الإسماعيليون بإدراك الروابط المشتركة بين الفكر الإسلامي والعرفان، أي الطريقة التي يفهم بها المسلم هذه الطريقة في التفكير، والتي تنتشر بشكل واسع في أديان آسيا، وقد كان الفيلسوف “محمد ابن أحمد النسفي” المتوفي عام 332 هـ هو صاحب السبق في إدخال الفلسفة للمذهب الإسماعيلي، وكذلك أبو حاتم الرازي (توفي عام 322هـ ) وأبو يعقوب السجستاني (توفي عام 331هـ على المشهور)، الذي يقول “د. فرهاد دفتري” في كتابه “الإسماعيليون في العصر الوسيط” إن هؤلاء الدعاة صاغوا فلسفتهم بناء على الأفلاطونية المحدثة التي كانت شائعة آنذاك في إيران.
ولأن المذهب الإسماعيلي صعب الفهم لقيامه على التفلسف، يمكن القول بأن معظم الاتهامات الموجهة لأئمته غير ثابتة ولا يمكن إثباتها لعدة أسباب:
الأول: أن التراث الفكري الإسماعيلي نادر جدًا، وما تَحصّل عليه المفكرون من ذلك التراث الآن ترجمات وجهود شخصين اثنين؛ هما “عارف تامر” و “مصطفى غالب”؛ فمن أين حصل الخصوم على اتهاماتهم إذن؟
الثاني: أن كثيرًا من هذه الاتهامات تمس خُلُق وسلوك فقهاء ودعاة الإسماعيلية، كرميهم بالزنا واستحلال المحرمات والشهوات.. إلخ؛ بينما العرفان الذي يدعو إليه الإسماعيليون بعيد عن هذا السلوك المادي؛ فهم قوم يهمهم سمو الروح والوجدان والاتصال العقلي مع الذات الإلهية، ولا يهتمون بالجسد الفاني مثلما يصفوه؛ فهم قوم أقرب للغنوصية والزهد والتقشّف؛ فكيف يُمجدون ويؤمنون بمتعة الأجساد؟
الثالث: أن الإسماعيلية انتسبت إليها جماعات سياسية كثيرة “كالفاطمية والحشاشين والقرامطة والسامانية”، وتحوّل المذهب لسياسة يُسلّط الضوء على الأمراء والحكام والعساكر على أنهم ممثلون شرعيون؛ بل في الواقع هؤلاء ممثلون لمصالحهم ليس إلا، أما المذهب والفكر فيمثله عموم فقهائه ودعاته وفلاسفته والسلوك العام للمؤمنين به، والتاريخ الإسلامي لا ينقل هذا البُعد الثاني؛ بل ينقل الأول الخاص بالحكام والأمراء، مما يفسر بشاعة ما نسب للإسماعيلية من تعديات وأخطاء وجرائم.
ومن تلك الزاوية لا يمكن تكذيب ما نسب للإٍسماعيلية من جنون أحيانًا أو جرائم بالمطلق؛ فغاية ما هنالك أن خصومهم نقلوا سلوك قادتهم وأمرائهم على أنه التمثيل الصحيح للمذهب والصورة العامة للدين الذي يؤمن به الإسماعيلية بالعموم.
الرابع: أن التقية كانت هي الغالب على سلوك الإسماعيلية قديما؛ فلم يكشف مثقفو هذا المذهب عن توجههم الحقيقي للعامة والسلطة مثلما يُعتقد، وحين كشف البعض عن أفكاره كتبوها بأسماء مستعارة خوفًا من القتل، مثلما حدث مع جماعة “إخوان الصفا”، وهي مجموعة من فلاسفة الإسماعيلية ظهروا في القرن 3 هـ للتوفيق بين الدين والعقل، وهو اتجاه أسس لاحقًا لتيار علم الكلام واللاهوت الإسلامي، ومن أعلن عن نفسه منهم كانوا أكثر حذرًا في أطروحاتهم الفلسفية حتى الذين ظهروا في كنف الدول الشيعية كالبويهية والفاطمية.
وخلاصة هذا الأمر أن معظم مآخذ خصوم الإسماعيلية عليها (رجل قش)، وهي مغالطة منطقية تعني صناعة صنم وهمي ورميه بالحجج والاتهامات المزيفة، والتي ليس لها وجود، ومن أمثلة ذلك ما جاء في موسوعة فتاوى الأزهر: “نشأت الإسماعيلية في بلاد الفرس وأسست دعوتهم على الإباحية المطلقة واستعجال اللذائذ والشهوات وتأويل التكاليف الشرعية، بما يفضى إلى إبطال الشرائع وعودة المجوسية إلى سيرتها الأولى ” (6/ 69).
مواطن
إضافة تعليق جديد