حليم بركات يكشف أحوال الاغتراب الثقافي العربي
على رغم تداوله في الفكر العربي الحديث والمعاصر لا يزال مفهوم الاغتراب غامضاً، ونادراً ما اتفق الباحثون على تحديده، ما يثبت أن هذا المصطلح ليس سوى مجموعة متفرقة من المعاني التي ليس من الواضح تماماً ما هي طبيعة العلاقات في ما بينها. ولعل هذا بالذات ما حدا بالباحث الاجتماعي حليم بركات الى طرح مسألة «الاغتراب في الثقافة العربية» مركز دراسات الوحدة العربية 2006، في دراسة شاملة تتناول معانيه ونظرياته وإعادة تحديد مفهومه في الثقافة العربية، فضلاً عن مصادره وتنويعاته ونتائجه السلوكية في الحياة العربية.
عرض بركات لمفاهيم الاغتراب في الفكر الغربي. فهيغل عرّف الاغتراب بحالة العجز التي يعانيها الانسان عندما يفقد القدرة على تقرير مصيره والتأثير في مجرى الأحداث التاريخية، وماركس رأى في الاغتراب حالة عامة في ظل النظام الرأسمالي الذي يهبط بالعامل الى مستوى السلعة فتزداد تعاسته بازدياد قوة إنتاجه وحجمها لأنه لا يعمل من أجل نفسه بل من أجل غيره، و»ماكس فيبر» اعتبر الاغتراب سمة عامة للمجتمعات الرأسمالية حيث تتحكم قوى غير انسانية بجميع جوانب الحياة، «وهايدغر» رأى أن وجود الإنسان يكون أصيلاً بقدر ما يختار ويضع قراراته بنفسه، وذهب «سارتر» الى أن المهمة الأولى للإنسان أن يؤكد حريته.
في ضوء هذه المفاهيم الغربية يعرّف بركات الاغتراب بحالة عجز الإنسان في علاقاته بالمجتمع والمؤسسات والنظام العام بعد أن تحوّلت هذه كلها الى قوة مادية ومعنوية تعمل ضده بدلاً من أن تستعمل لصالحه. بهذا المفهوم إن واقع المجتمع العربي السائد هو واقع مغرّب يحيل الشعب وبخاصة طبقاته وفئاته المحرومة والمرأة الى كائنات عاجزة لا تقوى على مواجهة تحديات العصر. فالشعب عاجز في علاقاته بالدولة والأحزاب والمؤسسات العائلية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إذ تسيطر هي على حياته ولا يسيطر هو عليها، يعمل في خدمتها ولا تعمل في خدمته، ويجد نفسه مضطراً الى التكيّف مع واقعه بدلاً من العمل على تغييره، والى الامتثال للسلطات المهيمنة بدلاً من اتخاذ المبادرات والجرأة على التفرّد والإبداع. ولهذا يعيش الشعب كابوساً لا حلماً. إنه محاصر ودائرة الحصار تضيق باستمرار، فيضطر يائساً الى الانشغال بتدبير شؤونه الخاصة وتحسين أوضاعه المعيشية المادية لا الإنسانية. لقد سلبته هذه المؤسسات حرياته وحقوقه في السيطرة على إنتاجه في مختلف الحقول، بل وظفتها في تهميشه وإفقاره وسحق قدراته الإبداعية.
أما مصادر الاغتراب فتتمثل في التفتت الاجتماعي والتجزئة القومية وتقديم الولاء القبلي والعائلي على القومي والاجتماعي، وفي تبعية الاقتصاد العربي للسوق العالمية وخضوعه للشركات المتعددة الجنسيات، وفي شكل خاص في سلطوية الأنظمة التي سلبت المجتمع المدني وظائفه الحيوية واحتكرتها لنفسها، وحرمت المواطن من حقوقه بالمشاركة في عملية التغيير وعطلت دوره في خدمة المجتمع، فبات الشعب عاجزاً تجاه الدولة وكلاهما عاجز تجاه القوى الخارجية التي تسيطر على موارده وتتحكم بمصيره وخياراته.
هناك إذاً أوضاع تحيل العربي في الزمن المعاصر الى كائن مغترب عن نفسه ومجتمعه ومؤسساته، ما يجعل الخيارات المتاحة أمامه قليلة ومحدودة، والحصار المضروب على حياته شديد الإحكام، تتضافر فيه عوامل متعددة، منها أهمية الجماعات الوسيطة العائلية والقبلية، والترابط الوثيق بين القيم الدينية والقيم العائلية، وتوسل الطبقات الحاكمة الدين لتثبيت شرعيتها، وترسيخ هيمنتها، وتسويغ امتيازاتها الطبقية، ومصالحة الفئات المسحوقة مع واقعها الأليم.
إزاء هذا الواقع المغرّب تتراوح خيارات الإنسان العربي بين الانسحاب واللامواجهة والهجرة، أو الخضوع والاستسلام والرضوخ للواقع والتكيّف معه، وبين المواجهة بالتمرد الفردي والعمل الثوري في إطار حركة سياسية منظمة.
إلا أن العربي في الوقت الحاضر يميل برأي بركات الى الانسحاب والرضوخ أكثر مما يميل الى العمل الثوري لأسباب دينية واجتماعية وعائلية.
من أجل خروج الإنسان العربي من حالة الاغتراب السياسي والاجتماعي يدعو المؤلف الى التغيير التجاوزي وثقافة التحول الشامل ونهوض حركات اجتماعية تحررية تجاوزية تتحول بالشعب العربي الى شعب يرفض واقعه المغرّب. هذا التغيير التجاوزي الشامل يجب أن يشكل انقلاباً جذرياً في البنى والأوضاع والعلاقات القائمة، وفي مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ينتقل معه العربي من مرحلة الانفعال الى مرحلة الفعل بالتاريخ. ومن أجل ذلك التغيير يقدم المؤلف اقتراحات وتوصيات، منها تعزيز قيم الإرادة الحرة والإبداع والابتكار والتفرد، وقيم العقلانية وقبول الآخر، وقيم التمرد والتحرر والتفكير النقدي. ومنها التعامل مع النظام الكوني من موقع الاستقلالية وتنشيط دور المرأة وتقليص الفوارق الطبقية وإحقاق العدالة الاجتماعية.
في نظرة شاملة الى «الاغتراب في الثقافة العربية» يمكن القول ان الكتاب يندرج في إطار الدراسات الملتزمة التي اضطلع بها المؤلف في كتابيه السابقين «المجتمع العربي المعاصر» و «المجتمع العربي في القرن العشرين» وقد حقق من خلاله تقدماً نحو تصور واقعي وموضوعي لطبيعة البنى السياسية والاجتماعية والثقافية المهنية في المجتمع العربي وموقع الإنسان العربي في كل تلك البنى المغربة لدوره وإبداعه وقراره الحر. إلا اننا مع ذلك نأخذ على المؤلف:
أ – التشوش والارتباك اللذين شابا منهجه فضلاً عن رتابة وتكرار أثقلا صياغة مؤلفه.
ب ـ طوباوية الطرح الذي انساق اليه بالقفز من الواقع الى الحلم من دون مسوغات واقعية أو موضوعية أو تاريخية. فقد رسم صورة شديدة القتامة للواقع العربي بكل مآزقه وأزماته وانسداداته،
وبعد أن تكررت ملامح الصورة القاتمة من فصل الى فصل من فصول الكتاب، عاد المؤلف ليقدّم توصيات واقتراحات التغيير التجاوزي والتحول الجذري الفوري، والتفكير النقدي الإبداعي، والتعامل مع النظام الكوني من موقع الاستقلالية، وتقديم قيم العقل والعقلانية والتمرد والانفتاح والتسامح والحرية السياسية والاجتماعية. فكيف ستتم كل هذه التحولات ومن الذي سيضطلع بكل تلك المهمات؟ هل هو الشعب إياه المقهور المغيّب المغرّب المغلوب على أمره أم الفرد المسحوق المهدد المحاصر بالفقر والأمية والاستبداد؟ هل هو المثقف المبدع المعزول المنفي داخل مجتمعه، والذي أقصى حلمه الوصول الى آلاف القراء، هو الذي سيحرك الثورة المرتجاة والتحول التجاوزي في أمة الثلاثمائة مليون عربي؟ هل هي الحركات السياسية أم الأحزاب أم الجمعيات؟
الواقع أنه في العالم العربي قرابة مائة مليون أمي وفقير، بينما المثقفون يعيشون على هامش أمة هي الأقل إنتاجاً للمعرفة والأقل استهلاكاً لها في عصر سمته الرئيسة ثورة العلوم والتقنيات، وبينما الحركات والأحزاب الجــــماهيرية ليس هاجسها التحول التجاوزي وليس في حساباتها الثورة العقــــلانية النقدية الديموقراطية. إننا وإن كنّا نـــشارك المؤلف همّه التغييري، إلا أننا نرى أن توصية متواضعة بإلغاء الأمية والفقر واحترام الحد الأدنى من حقوق الانسان والمرأة، قد تكون هي الأنجع والأكثر واقعية.
كرم الحلو
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد