خيبات صغيرة
بمَ تحلم كاتبات أميركا اليوم؟ سؤال طرحته على نفسي وأنا أقرأ مؤخراً بعض أعمال كاتبات أميركيات، (كاي غيبونز، سوزان مينو، منى سيمبسون)، وهنّ ثلاث روائيات أميركيات ينتمين إلى الجيل ذاته، ذلك الجيل الذي تخطى الخمسين، أي الذي يقع بالضبط عند حدود هذا "العمر التأملي".
لكن إن تخطينا قضية تحديد العمر هذا، فثمة سؤال لا بدّ من أن يطرح نفسه: بمَ تحلم أولئك الكاتبات؟ بم يحلمن في أميركا اليوم، أميركا "التي بدون وهم"، بلد الغضب العمراني والضواحي الصاخبة التي تمتدّ على مدى النظر الذي يضيع فيها، أميركا "الدايت كولا" ومحترفات الكتابة والعائلات المؤمنة جداً أيام عيد الشكر، لكنها الممزقة والمفككة فجأة من جراء الحزن والطلاق والانزواء الاجتماعي والبطالة والخوف من الشيخوخة و"الأيروبيك".
لو حاولنا اليوم أن نبحث عن هذه "الحداثة" في كتابات أدباء أميركا، لربما وجدناها في تلك "الخيبات الصغيرة" التي لا توحي مطلقاً بالتفاؤل الأميركي، لوجدناها في تلك الحيوية الكئيبة التي تحدث عنها هنري روث في أعماله، وفي تلك الخيبات التي لا تثقب أبداً "الذوق الأخلاقي" كما في أعمال جون أوبدايك. فمن دون شك، نحن أمام مسألة أجيال ورؤى، مع كلّ ما تحمله هذه الكلمات من اتجاهات وقضايا. فهؤلاء الشابات الثلاث يعرفن أنهن يتيمات الحلم الأميركي، خاسرات وهم التقدم، وشقيقات الخيبة، التي وجدنها في كتابات "الأخ الأكبر" وأستاذهن في الكتابة ريمون كارفر. روائيات، يتذوقن الفرح المرير في أن يَشخْن داخل عالم مماثل، مليء بالخيبات والانكسارات.
بم يحلمن؟ بداية، نجد عندهن البحث عن زمن ضائع، وحبّ هذا الزمن الذي لم يعرفنه. كذلك نجد ذلك الحنين إلى تلك الجذور التي فقدنها والتي لم تعد موجودة لا في التناغم ولا في انضباط العواطف. نجد تلك الشخصيات التائهة في البحث عن ماضيها البعيد، ولا سيما أن هؤلاء الكاتبات الثلاث، ينتمين إلى أصول متفرقة، جاء أجدادهن الأوائل للإقامة في هذا العالم الجديد. وثمة ملاحظة ينبغي الانتباه إليها: إن الكاتبات الثلاث، لا يعلنَّ أبداً، انتماءهن إلى تلك البلاد التي جاء منها أجدادهن، وإنما يحاولن أن يصوّرن مدى انهيار الواقع الراهن، من خلال مقارنته بالحلم الأول، الذي سحر الجميع، وقادهم إليه.
ثلاث ناقدات بارتياب لمجتمع الرجال، ثلاث متحفظات أمام الإسراف في حرب الأجناس التي تشهدها أميركا. ومع ذلك، فقد قررن أن يبحثن عمّا ينقصهن. وما رواياتهن سوى البحث عن ذلك، وإن كانت القراءة تسمح لنا بالاعتقاد بأنها تتوافق والنضج الذي بلغنه. روائيات يتركن جانباً الذكريات السيئة الحاضرة، لينهلن من طفولة خرجت من إطارها العنيف، من نظام الحسابات العائلية، حيث وجدن ثلاثتهن في ذلك، مادة الكتابة. فهذه الكتابة التي بدت كأنها تشكل لهن علاجاً ما، وجدت الفرصة لتسحر أميركا المتصنّعة الحياء.
اسكندر حبش
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد