د.غسان الرفاعي: المثقفون بين المرآة والضفادع!..

28-06-2008

د.غسان الرفاعي: المثقفون بين المرآة والضفادع!..

ـ 1 ـ يبدو ان ظاهرة «اختفاء المثقفين» من الساحات والفضاءات السياسية والاعلامية، لم تعد «فضيحة» يتكتم عليها المراقبون، وإنما هي الضريبة الباهظة التي يطالب دعاة العولمة بأن يدفعها المجتمع المعاصر، في محاولة «شريرة» لإحلال السماسرة وتجار العمولات، والفاسدين مكان المثقفين.

لست من المعجبين بأدب «اندريه جيد»، وإن كنت أستمتع بحدة اسلوبه، وفدامة معانيه، فقد تمادى، في قناعتي، في بورجوازيته وتعاليه، وشذوذه، دونما مسوغ، ولكنني أعترف بأنني معجب بتعريفه للمثقف ـ الكاتب، فقد زعم ان الكاتب الكبير هو «انسان غير متزن!» وله حججه في تسويغ أقواله: «الإنسان المتزن قابل للاختزال في معادلة رياضية، في حين يبقى الإنسان غير المتزن لغزاً مستعصياً على المعادلات: الأول يجنح الى الاستقرار والمحاكاة والتكرار، والثاني تستبد به الرغبة في الاضطراب والنشاز والبذاءة»، إن «اندريه جيد» لا يجعل من الكاتب، في تعريفه المثير، قاطع طريق، أو راعي أبقار، بل لعله أراد ان يقول إن لكل كاتب بصمة خاصة به، وإنه لايمكن ان يكون، ولا يجوز ان يكون «سلعة مؤممة»، فقد تكون الموضوعات المتداولة واحدة، ولكن لكل كاتب «منظاره» الذي يحمل خصوصيته الانسانية والاجتماعية، ولو كانت المناظير واحدة، لما نشأت الحاجة الى كتّـاب جدد في كل عصر، وقد تكون القيم التي يدافع عنها مجموعة من الكتاب واحدة، ولكن لكل كاتب «تقنيته الخاصة» في اظهار هذه القيم والدفاع عنها، ولو كانت التقنيات واحدة لاقتنع الجميع بضرورة اصدار منشور يحمل توقيعهم، ولتخلوا عن «هم» الكتابة نهائياً. ‏

ـ 2 ـ ‏

على ان ظاهرة «اختفاء المثقفين» تثير الجدل والنقار، فهناك من يجدها «ظاهرة صحية» لأن المثقفين هم «تجار فوضى ونشاز واضطراب» وقد آن الأوان لانقراضهم، وهناك من يجدها «عاهة» مرضية أفرزها مجتمع الاستهلاك، ولا بد من تطويقها والقضاء عليها، كيما يستعيد المجتمع عافيته وتوازنه. ‏

صدر العدد الجديد من شهرية «لافيلوسوفي» وعلى غلافه عنوان كبير: «المثقفون، هل هم ديناصورات مهددة بالانقراض؟ أم شموع لا بد من ان تبقى مضاءة باستمرار؟» وقد شارك في طرح ومناقشة موضوعات العدد عدد كبير من الكتاب البارزين، وكم كانت دهشتي كبيرة حينما عثرت على ترجمة حرفية لمقال كنت قد نشرته في تشرين عام 2002 بعنوان: «هذا الكاتب سأركع أمامه»! تحدثت فيه عن المثقفين والكتاب خاصة، وقد يكون من المفيد اعادة نشر بعض مقاطع من هذا المقال، اذ قد يكون مرتبطاً بالأحداث الجارية. ‏

ـ 3 ـ ‏

وطننا العربي مغزو غزواً منظماً من قبل ثلاثة نماذج من الكتاب: كتاب ـ المرآة، وكتاب ـ الدرج، وكتاب ـ الضفادع. وهذه النماذج وعلى الرغم من كل ما جرى ويجري في الساحة العربية تتكاثر من دون زرع ولا تلقيح، وتحتشد في الساحات العامة من دون دعوة رسمية، إنها تحمل بضاعتها على ظهرها، وكتجار «الملبوسات المستعملة» تعرضها على الأرصفة وتنادي عليها بأصوات مبحوحة. ‏

الكاتب ـ المرآة: يتبرج ويتغندر لفظياً وايديولوجياً ويتمايس في المحافل والمجالس ويخشى ان تنزلق عليه ذرة من غبار، رأسماله حفنة من الألفاظ المموسقة ودزينة من علامات الاستفهام والتعجب، يرشقها كيفما اتفق على الورق لتكون همزات وصل بين الكلمات والتعابير، مثله كمثل خياط النسوان الذي يملأ فمه بالدبابيس، يقطب بها الكم اذا زحل، والخصر اذا انشمر، والتكسيرة اذا انفلشت، انه يدوس بين اللفظية المترهلة والتفاكر اللقيط، فلا هو قادر على ضب ترهله ولا هو راغب في اضفاء الشرعية على تفاكره. أحسن انقاذ له ان يمعن في عشقه لوسامته، كما فعل «نرجس»، فقد يسقط في الساقية التي تزوده بكل بضاعته الثقافية. ‏

الكاتب ـ الدرج: يقتات من سطور الكتب وجزازات الصحف وهوامش الملفات، كما يقتات الأرنب من قضبان الجزر، فلا هو يبقى على هزاله ولا هو يسمن عباءته الثقافية مكتظة بالرقع والشقف المتداخلة التي لا تجلب له الدفء، ولا تؤمن له تهوية منعشة، انه غضاريف هشة من دون هيكل عظمي صلب، معاطف وأردية متناثرة، تفتش عن مشجب تعلق عليه، ذهنه محشو بالأسماء والاستشهادات من دون ترتيب، ولا ذوق، كغرفة طالب فوضوي، تجد فيها فرشاة الأسنان داخل حذائه وصحن الطعام فوق الفراش. يرتعد من المجاهرة برأي اذا لم ينسبه الى مصدره، ومن الأفضل ان يكون اجنبياً براقاً. رصيده الثقافي مخزون في دروجه، مفهرساً كيفما اتفق، يستنجد به في المناسبات الباذخة والغثة على حد سواء، يسلك سلوك المترفعين، لا بما كونه من مواقف وآراء، وانما بما جمعه من جزازات وهوامش، لا يطمح بأن يكون أكثر من ارشيف رث تتكدس فيه المعلومات والمعارف كيفما اتفق، وليس من المستبعد ان تنسج العناكب حوله وحول ثقافته خيوطها فيستيقظ ذات يوم ـ فاذا به وقد اصبح قوتا لها. ‏

الكاتب ـ الضفدع: مجدف مجاني، لايملك إلا نقّه المتواصل، والقدرة على توظيف هذا النق توظيفاً مجزياً، إنه رافض لكل شيء في تصاعد هندسي الى ان يصل الى رفض نفسه وقابل لكل شيء في تنازل حسابي، الى ان يصل الى قبول عبوديته، يخيل اليه انه في الذرا الشامخة كأبولون، ولكنه ليس أكثر من قن يتمرغ على بلاط سجنه، تغلب عليه الرعونة والجلافة، حتى اذا ما قشر عنه جلده بدا هلامياً لزجاً كسلطة الفواكه، له ولع في الشكوى الفظة يستخدمها لحماية لزوجته أولاً وللتسلق الخفي المستتر ثانياً. وكما تعوّد ان يأكل على موائد الآخرين دون ان يدفع ثمن طعامه، فكذلك يتثقف دون ان يدفع ثمن ثقافته، يلصق على وجهه شعاراً ويختبئ داخله كالقنفذ، وفي ذهنه ان الشعار يلخص له الأغذية الحضارية كلها في قرص سحري، يلتهمه على عجل، ويرتاح، وقد يريح. ‏

ـ 4 ـ ‏

وقلت في مكان آخر من المقال: ‏

أنا من المنادين «بإقطاعية الكتابة» على الرغم من ايماني الذي لا يتزعزع بالديمقراطية، فلا مجال باعتقادي، لهدم الأسوار بين من يغمس قلمه في دمه، ومن يغمس قلمه في بحيرة السلطان. ديمقراطية الكتاب لا تعني افتتاح دور الحضانة للمتطفلين والطحالب، والإغداق عليهم، في انتظار ان يصلب عودهم، ويصبحوا قادرين على صناعة جمل مفيدة تصلح للمناسبات المفيدة. واذا كان لا بد من الاحتفاظ بنظام إقطاعي في ميدان الكلمة للحفاظ على الأصالة والنزاهة، فقد يكون من اول اهداف الوطنية المستنيرة، الحفاظ على مثل هذا النظام الاقطاعي. ‏

الدفاع عن قضايا الجماهير ليس «جملة مفيدة في مناسبة مفيدة» انه رؤية متكاملة، شفافية خارقة، تقنية مؤلمة موجعة، رهينة فنية وفكرية معاً، تجاوز مستمر لا استنقاع خجول، جهد مضن، لا استرخاء كسول، ومن يوقف قلمه للدفاع عن قضايا الجماهير ينبغي ان يكون قاسياً على نفسه قبل الآخرين، وان يكون محباً لهم، قبل ان يكون محباً لنفسه قادراً على رفض الاغراء، قبل ان يكون قادراً على قبول التكريم، وهذه كلها تتطلب سيكولوجيا اقطاعية رعناء، لا هشاشة ديمقراطية. للجميع الحق في ان يأكلوا طعاماً مغذياً، وان يناموا على أسرة مريحة ونظيفة، وان يرتدوا ثياباً لائقة، وان يمنحوا فرصاً متساوية في التقدم والازدهار، ولكن لايجوز ان يفرض علينا الاعجاب برواية «نجيب محفوظ» بنفس القدر الذي نعجب به «بخربشة» هزاع الحمد، وهو وافد جديد من افراز سلطة عربية، فهذا تهتك اخلاقي، ولايجوز ان يطلب منا ان نتعامل مع الاثنين أدبياً لا انسانياً، ولا اقتصادياً، على قدم المساواة، فهذا تعسف سلطوي لا قدرة لنا على تحمله. ‏

ـ 5 ـ ‏

وقلت في نهاية المقال: ‏

النموذج الذي نفتقر اليه هو الكاتب ـ الاقطاعي، الكاتب ـ الأرض، الكاتب ـ الانسان، إنه السنديانة التي تمد جذورها في باطن الأرض، ارضنا، القيثارة التي تغني همومنا وأفراحنا، الصدر الذي نبكي عليه، ونغرز اظافرنا فيه، الطلقة التي تصوب الى تفاهاتنا وتقاعسنا، وصمتنا وعبوديتنا، الحب العميق العميق الذي يعمينا، ويورق أغصاننا، ويفجر طاقاتنا، إنه حريتنا وعذاباتنا، وهواجسنا، ومطامعنا. ‏

هذا الكاتب سأركع أمامه، وسأقبّل يديه وقدميه. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...