سبينوزا والسعادة

11-10-2020

سبينوزا والسعادة

 :أرييل سوهام ـ ترجمة: عز الدين بوركة

من دون تعارض الروح والجسد، يدعونا كتاب «الأخلاق» لسبينوزا إلى التحصيل والحفاظ على الأحاسيس المفرحة، وذلك لتعزيز قدرتنا على الفعل. مكتفياً بعدم تجاوزه الحد الأقصى من التجريد والحد الأدنى من «الممارسة»، يبدو للوهلة الأولى كتاب «الأخلاق» محمولاً بحزمةٍ من القضايا والبراهين التي من المفروض أن تقودنا إلى معرفة الله والحياة الخالدة. وقد كتب نيتشه «ما الذي تبقى من أزلية سبينوزا غير طقطقة العظام؟»، ولكن نيتشه لم يكلف نفسه عناء ملاحظة أن النظام المعروض مشبع بقواعد عملية وهي الوحيدة القادرة على كَسْوِ العظام لحماً. وإذا لم نضع هذه القواعد موضع تنفيذ، فلن تكون للسبينوزية أية أهمية، وبالفعل، لن تكون أكثر من طقطقة العظام! والمفارقة هي أن الخلود والذي يسميه سبينوزا أيضاً بـ«سعادة بالغة»، هو في الوقت نفسه، الهدف والوسيلة للوصول إلى هذه الغاية. وبدون شك يجب عليه بدايةً وضع الأسس الفعلية، ولذلك يقول في القضية العاشرة من الباب الخامس لكتاب «الأخلاق»: «..أن نحفظها في ذاكرتنا ونطبقها باستمرار على الأمور الجزئية التي تعترضنا كل يوم، بحيث تكون مخيلتنا متأثرة جداً بهذه المبادئ التي تبقى دوماً تحت تصرفنا». وبقدر ما ندرك الغاية وراء وضع هذه الأسس حيز التنفيذ بقدر ما نستمتع بالفرح المصاحب لها، والذي هو -بالنسبة لسبينوزا- القدرة عينها. والمهم إذن هو الاستمتاع في الممارسة العاطفية التي يلخصها سبينوزا في عبارةٍ بسيطة استمدها من أحد أسفار الكتاب المقدس: «اعمل خيراً وكن فرحاً».
خلال القرن السابع عشر برزت إشكالية أخلاقية ظلت لصيقةً بهذا القرن، تعلقت بالعجز الذي لحق بالعقل. حيث قام هذا الأخير بإبراز قدرته على تفسير الطبيعة وإخضاعها له فأصبح «سيداً ومالِكاً».
القدرة أولى من السلطة
ولكن بمجرد تطرق هذا العقل لقضايا الإنسان نفسه، اصطدم بعراقيل شتى. فهل كانت لديه القدرة على مساعدتنا في التحكم في مشاعرنا وانفعالاتنا، وبالأحرى أن يجعلنا نحقق غايتنا نحو الخلاص؟ لهذا السؤال إجابتان مختلفتان: الأولى لديكارت الذي عمل على مد العقل بإمكانية أخرى، وهي «الإرادة الحرة»، إذ تساءل حول سلطة الروح على الجسد. بينما فكر سبينوزا ليس في مفهوم «السلطة» بل في مفهوم «القدرة»: قدرة الجسد وقدرة الروح، وذلك دون إدخالهما في صراع، ولهذا فلن نستخلص إلا قدرةً وحيدة، هي عينها وإن كان يُنظر إليها في هيئتين. وبالتالي فلا جدوى من التعارض بين الجسد والروح أو الادعاء بالتقليل المباشر من القدرات: أولئك الذين يحاربون فعل «القدرة» بالقدرة، لا يسببون إلا التعاسة لأنفسهم وللآخرين! إذ ليست المسألة في من يجب أن يتحكم في الآخر [الجسد/‏‏‏‏‏ الروح]، بل كيف يمكن تنمية القدرة الجسمانية والذهنية، بطريقة تجعل الانفعالات السيئة لا تشغل فينا سوى حيز صغير.
التَّمَرُّسُ على الفرح
الأجدر بنا إذن هو التمرس على الفرح وتنمية القدرات الجسدية. إذ يقول سبينوزا: «وعلى الإنسان الحكيم إذاً أن يستعمل الأشياء ويتمتع بها قدر الإمكان... وعليه أن يستخدم لإصلاح ذاته واستعادة قواه، أغذية ومشروبات لذيذة متناولة بمقادير معتدلة، كما عليه أيضاً أن يستعمل العطور ويستمتع بالنباتات المخضرة وبالحلي والموسيقى والألعاب الممرِّنة للجسم والعروض المسرحية وأشياء أخرى من نفس القبيل، والتي بوسع كل واحد منا أن ينعم بها دون أن يلحق ضرراً بغيره»، (الأخلاق، الباب الرابع).
المنفعة البشرية
وفي ظل هذه الظروف، يصبح العقل قادراً على أن ينمو ويتطور تحت خاصيتين: خاصية تفسيريًّة وخاصية طبيعية. وبما أنه يعي ويفهم الأشياء عن طريق عللها الطبيعية فإن العقل يرى الأشياء وكل الكائنات، على أنها ضروريات: وبالتالي في هذه الحالة فليس لديه ما يسبب له الشعور بالاستياء، ولكن شريطة أن يُكوِّن لنفسه حدوده، فالعقل لديه القابلية لتعلم استعمال الأشياء التي تصب في منحى المنفعة البشرية.
الخيال.. حليفاً
لتجنب هذه العراقيل يجب على العقل أن يعتبرَ الخيالَ حليفاً له ومرتكزاً أساسياً لتكوين صورٍ جيدة، يضيف سبينوزا: «..ونحن قد وضعنا من بين قواعد الحياة مثلاً، أنه ينبغي التغلب على الكره بالحب والأريحية، لا أن نقابله بالكره. ولكي تكون هذه القاعدة العقلية تحت تصرفنا دائماً عند الحاجة، يجب التفكير باستمرار في الإهانات التي قد يسببها الناس عادةً بعضهم لبعض، والتفكير في أفضل الوسائل والسبل لاستبعادها وتجنبها بالأريحية»، (الأخلاق، الباب الخامس).
الوعي وقوة الروح
إذا كنا نعي بشكلٍ معقول فكرة الخير الناتجة عن الصداقة المتبادلة (خاصية طبيعية)، دون أن ننسى أن البشر يتفاعلون مثل بقية الكائنات الحية بضرورة طبيعية (خاصية تفسيريِّة)، فإن سبينوزا يعلل ذلك بقوله: «.. لو أن البشر يتصرفون، مثل بقية الكائنات، بمقتضى الضرورة الطبيعية، لما شغلت الإهانة ولا الكراهية التي تترتب عنها عادة، أكثر من جانب حقير من مخيلتنا، حتى لو كان الغضب -الذي ينشأ في الغالب عن أكبر الإهانات- لا يمكن تجاوزه بسهولة»، (الأخلاق، الباب الخامس). ولهذا بدل المواجهة المباشرة للغضب والتي ستكون أيضاً بحد ذاتها سلوكاً مغضباً، وجب مواجهتُه بـ«التأمل» والتمرن والتعود على التنبؤ بخطره وربطه بشكل مباشر بفكرة الخير، وبهذا لا يدوم الغضب مدة طويلة ويصبح سريع الزوال عن طريق «حضور الوعي» و«قوة الروح». وفي المجمل، فإن مؤلف «الأخلاق» لسبينوزا هو تعبئة لكل موارد الوجود من أجل فن السعادة والفرح، فن للتحصيل مع الحفاظ على الأحاسيس المفرحة والممتعة.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...