سيمون دي بوفوار..الكاتبة التي تحدثت عن سيكولوجية المرأة
تحاول سيمون دي بوفوار من خلال مجمل ما تركت من أعمال أدبية وفكرية أن تقدم سيكولوجية المرأة إلى عالم الرجال, ومن جهة أخرى تقدم حضور الرجال في عالم النساء.
من هنا أثارت كتابات بوفوار العديد من السجالات والنقاشات ما أدى إلى حضور أدبي وفكري لهذه الكاتبة.
ولدت بوفوار سنة 1908 في باريس لعائلة ثرية, ولأب يعمل محامياً خسر ثروته في الحرب العالمية الثانية, بينما تفرغت أمها لتربيتها مع أختها تربية كاثوليكية صارمة, لكن سيمون رفضت هذه التربية وتمردت عليها.
واصلت تعليمها في جامعة /أكول نورمان سوبراير/ الفرنسية إلى أن تخرجت وغدت أستاذة جامعية في السوربون بين أعوام 1931-1943.
دخولها إلى عالم الأدب
مالت بوفوار إلى عالم الأدب والثقافة والفلسفة, وكانت تتردد إلى الأماكن التي يمكن أن تقابل فيها مشاهير الشخصيات الفكرية والأدبية, فكان اللقاء برفيق دربها, ورفيق فكرها جان بول سارتر الذي أعدته كما تقول الحدث الرئيس في حياتها, وفي عام 1943 نشرت روايتها الأولى /المدعوة/ فكانت بداية انطلاقتها إلى عالم الأدب.
ولكن شهرتها الحقيقية بدأت عندما بدأت تطرح آراء جريئة عن العلاقة بين الرجل والمرأة ومن هذه الآراء: لا يولد الإنسان امرأة, بل يصبح كذلك, ثم تكللت هذه الكتابات بكتابها الشهير /الجنس الآخر/ 1949 الكاتب أحدث سجالات ثقافية في الأوساط العلمية والاجتماعية والثقافية في العالم, ومن المفاهيم التي تطرحها في هذا الكتاب: /ليس هناك قدر بيولوجي أو نفسي أو اقتصادي يقرر الشكل الذي تمثله المرأة في المجتمع, إنها الحضارة ككل هي التي تنتج ذلك المخلوق والذي نطلق عليه اسم الأنثى/.
ومن المفاهيم التي تطرحها في هذا الكتاب: هوجمت خصوصاً بسبب فصل الأمومة, وصرح رجال كثيرون بأنه لم يكن يحق لي التحدث عن النساء لكوني لم أنجب أولاداً, ترى, هل أنجبوا هم؟ إنهم يعارضونني بأفكار ليست حاسمة لا قطعية, أتراني قد رفضت كل قيمة لشعور الأمومة والحب؟ كلا, لقد طلبت من المرأة أن تعايش هاتين القيمتين وبشكل حر, في حين أنهما غالباً ما يخدمانها كحجة, وأنها تخضع لهما إلى درجة أن الخضوع يبقى إذ يكون القلب قد جف.
وكذلك: كان من ألوان سوء التفاهم التي خلقها الكتاب الاعتقاد بأني كنت أنكر فيه أي فرق بين الرجال والنساء والحقيقة إني بالعكس قست وأنا أكتب الكتاب ما يفصل الجنسين, ولكن ما ذهبت إليه هو أن تلك الاختلافات هي ثقافة وليست طبيعية وأخذت على عاتقي أن أروي كيف كانت تنشأ هذه الاختلافات.
ثم توالت أعمالها ومنها سيرتها الذاتية التي وقعت في أربعة أجزاء وهي: مذكرات قناة رصينة عام 1958- عنفوان الشباب عام 1960- قوة الأشياء عام 1963 موت مريح جداً عام 1966.
هذه السيرة التي تعد تأريخاً حقيقياً وجريئاً عن تفاصيل وقائع الحياة الفكرية في فرنسا.
صقل الشخصية
تسعى بوفوار أن تشرح بأن المرأة يمكن لها أن تقوم بأعمال هامة في الحياة إلى جانب الرجل, يمكن للمرأة أن تحمل على كتفيها عصراً كاملاً, فتقوم بعملية تمثيل هذا العصر الذي عاشته والذي عاشها.
يمكن أن تتلخص مئات, بل آلاف النسوة في امرأة واحدة, فتمثل العبقرية والشفافية والوعي والمشاركة في سائر الفعاليات الاجتماعية والفكرية والسياسية, هذه المرأة التي قد تكون نادرة الظهور عبر العصور والحقب الزمنية, وحتى لو كانت موجودة, قد لا تتاح لها الفرصة للظهور, فتكون بطلة مجهولة أو بطلة مهمشة.
لذلك تدعو أن تعمل المرأة حتى تقي نفسها التهميش وتحقيق حضوراً.
أخذت أفكار الكاتبة تتطور بتقديم مراحل العمر, وأصبحت تكتشف الحب والتعلق الكبير بسارتر بالوقت ذاته بات التقدم في السن يشكل قلقاً لها فتكتب عام 1970 كتابها/ المرأة العجوز/ تقول فيه: كبر السن وليس الموت هو الذي يجب أن يقارن بالحياة, كبر السن هو محاكاة ساخرة للحياة بينما الموت هو الذي يحول الحياة إلى مصير/.
وتقول عن رواية /المدعوة/ كانت الأرض مزروعة بالأوهام المحطمة وهي الإخفاق الذي أزعج حياتي الخاصة هو الذي خلق المدعوة, ومنحني تقهقراً بالنسبة لتجربتي الحديثة والرغبة في انقاذها بالكلمات وأصبح ممكناً وضرورياً لي أن أضعها في كتاب يمكن اعتبار أن سيمون دي بوفوار قد ساهمت بفعالية بارزة في ترسيخ مفاهيم حضارية جديدة في بنية المجتمع الفرنسي المعاصر, وقدمت إسهاماً أكسب المرأة مزيداً من المكانة الاجتماعية, والاعتراف بمواهبها وتميزها, لا شك أن دي بوفوار مقروءة في فرنسا و سائر اللغات الحية بشكل جيد, وما ذلك إلا لأنها انطلقت عبر مجمل كتاباتها من خصوصيات المرأة التي تطمح إلى الإبداع وتقديم خدمات جليلة للمجتمع الإنساني بصفة عامة.
تقول بوفوار عن رواية «المثقفون» خلافاً لما ادعاه البعض من الخطأ اعتبار «المثقفون» رواية مفاتيح وأنا أحتقر روايات المفاتيح احتقاري لكتب «الحيوات المروية» وأنا لا أزعم أن «المثقفون» رواية ذات فكرة, إن رواية الفكرة تفرض حقيقة تمحو جميع الحقائق الأخرى وتوقف دائرة الاعتراضات والشكوك التي لا تنتهي, أما أنا فقد صورت بعض أشكال الحياة في فترة ما بعد الحرب من غير أن أقترح حلولاً للمشكلات التي تقلق أبطالي. عن روايتها «دم الآخرين» تكتب بوفوار: / كان موضوع دم الآخرين كما ذكرت تناقض هذه الحياة التي عشتها في ظل حرية اعتبرها أولئك الذين يقربونني مجرد شيء, ولكن هذه المقاصد فاتت الجمهور, وصنفها الكتاب على أنها رواية عن المقاومة, وصنفت أيضاً كرواية وجودية, وكانت هذه الكلمة قد أصبحت تلازم آلياً أثار سارتر وآثاري/
بين بوفوار وسارتر
وهكذا انطلقت خطواتها الأولى وهي تدخل الجامعة في السوربون وتلتقي شخصاً سوف يقترن اسمها باسمه وسوف يعملان بقوة معاً ولن يفترقا إلى آخر لحظات الحياة.
كانت في الواحدة والعشرين وكان الشاب في الرابعة والعشرين يدرسان الفلسفة ويعيشانها ويسعيان في تلك الفترة المبكرة إلى نمط جديد من التفكير, وهنا بودي أن أقول إن ما جمع سارتر وبوفوار من فكر كان أقوى من العاطفة, حتى أن العاطفة تفرعت من الحميمية الفكرية بينهما فكانت معجبة بفكر سارتر إلى أبعد حد, ومنذ لحظة البداية استطاع سارتر أن يفرض شخصيته عليها, تتذكر وقائع اللقاء الأول به: / كانت المرة الأولى التي أشعر أنني ألتقي بإنسان أشعر أمامه بالضآلة/
عرفت بعلاقتها القوية مع جان بول سارتر وتعاونا معاً أثناء الحرب العالمية الثانية في حركة المقاومة.
لكنها لم تسمح لسارتر أن يفقدها خصوصيتها وشخصيتها رغم كل ذلك الإعجاب والتعلق الفكري والروحي, فهي ذاتها سوف تكون صاحبة مجد أدبي, وحصلت على أرفع جائزة في فرنسا وهي جائزة /كونكور/ 1954 عن روايتها /رجال الفكر/ قبل أن يحصل سارتر على نوبل بعشر سنوات, أي بعد عام واحد من /الوجود والعدم/ وفي عام 1958 كما اختيرت رئيسة للرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان.
تقول عن علاقتها بسارتر:/الحقيقة أنني كنت منفصلة عن سارتر بالقدر الذي كنت التحم فيه مع هذه الشخصية.. كانت علاقتنا جدلية. أحياناً كنت أشعر بأنني على مسافة لا معقولة منه وفي أحيان أخرى كنت أشعر كأنني النصف الذي يكمل النصف الآخر. أخذت منه وأخذ مني, وبالتأكيد لم أكن تابعة له/.
وكان سارتر يقول إن سيمون دي بوفوار تجمع بين ذكاء الرجل, وحساسية المرأة, لبثت برفقة سارتر حتى نهاية عمره, واعتنت به إلى أن توفي سنة 1980 ثم قررت أن تقيم في شقة تطل على مقبرة سارتر, وأوصت أن تدفن فيها, وقد حدث ذلك عندما توفيت يوم 14-4 سنة 1986.
وكما أنها بدأت حياتها مع جان بول سارتر, فسوف تنهي عمرها بكتابها الأخير الذي تسميه /وداعاً سارتر/ عام 1981 تسرد فيه بعض الوقائع التي لم تكن معروفة عن سارتر وتقول إنه هديتها الأخيرة إلى الرجل الذي أمضت معه حياتها: / لقد كان رجلاً حقيقياً يعرف كيف ينتمي إلى الحقيقة وكيف يبحث عنها, وعندما وضعت كتابي كنت واثقة أن هذا أفضل ما يمكن أن يقدم لرجل لا يزال حياً.. كشفت عن سارتر الجانب الذي كان الناس يريدون أن يعرفوه, فلسفته ليست تعبيراً امبراطورياً عن أفكار تجول في وجدان الشخص إنها الدخول إلى أعماق الناس, حاولت أن أضيء بعض المشاهد غير المعروفة في حياته لكي أظهر كيف أن الارتجاج هو انعكاس جزئي لزلزال يتشكل داخل عقل الفيلسوف.
لم يعد كافياً قراءة سارتر كي نتعرف به, بل غدا من الأهمية أن نطلع على كتابات بوفوار حتى نتمكن من التعرف بسارتر على نحو أفضل كم أننا بحاجة إلى قراءة سارتر حتى نتعرف بسيمون دي بوفوار في مختلف كتاباتهما وبات من الصعوبة الحديث عن أحدهما دون ذكر الآخر, وهذه هي الميزة الكبرى التي تسجل لبوفوار في ارتقائها إلى هذه الموازنة رغم كل ما لديها من خصوصية فكرية وإبداعية, استطاعات سيمون دي بوفوار أن تترك بصمة امرأة عاشت كثيراً وكتبت كثيراً وتميزت كثيراً.
عبد الباقي يوسف
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد