صادق جلال العظم... بقلمه
كثيراً ما طُلب مني تقديم معلومات عن نفسي لأسباب شتى، منها المهني ومنها العلمي ومنها الأمني، لكن هذه هي المرة الأولى التي يتوجه إليّ أحد بطلب لأقوم بتقديم نفسي بنفسي إلى الآخر. وجدت في الطلب تحدياً لا بأس به، لأنني سأكون أنا الذات والموضوع في اللحظة ذاتها. لن أقدم نفسي على طريقة البوح بمكنونات النفس وأسرار الحياة، أو بسرد الاعترافات بكل ما هو حميم وشخصي وخاص، أو عبر الجرأة الزائدة على الذات. هذا ليس أسلوبي وأريد أن أحتفظ بالكثير لنفسي ولذاتي بعيداً عن أعين الغرباء؛ وإلا فما معنى أن أكون ذاتاً لنفسها وليس لغيرها فحسب؟ فإذاً: لا بوح، لا اعترافات، لا وجدانيات، لا غراميات، لا وشوشات، لا استغابات، لا نسائيات، لا نميمة، لا عواطف أو انفعالات، بل شخصية عامة تحتفظ لنفسها دوماً وللأقربين أحياناً بخصوصياتها وحميمياتها واستمتاعاتها وطرائفها وسقطاتها ومباذلها.
أعيش كمفكر ومراقب وناقد في الحاضر بكل كثافته وتحولاته ومشاريعه. ولذا، لا أحن إلى خـبز أمي، لأنني راشد قطع حبل السرة منذ زمن بعيد، وقتل الآباء جميعاً في داخله لحظة الرجولة والنــضج، وقبل تحدي كسب خبزه اليومي بجدارة وثقة بالنفس، وفضّل المسؤولية الفردية، بكل قلقها وأعبائها، على أمن الجمـاعة، كما فضّل الحرية الشخصية، بجليدها ومجازفاتها، على العــودة إلى دفء الرحــم الأول.
لا أبكي على الأطلال لأنني ابن عصري بإنجازاته وانهياراته، بفتوحاته وجرائمه، باكتشافاته وشناعاته، باختراعاته ومباذله. ولا أمشي برأس «مندارة» إلى الوراء لأنني أحيا زمني، وزمني هو الذي يعطي المعنى للتطلع إلى الوراء، وإلا فلا طائل أو نفع أبداً من هذا الوراء. ولا تملأ رائحة الياسمين خياشيمي حين أزور باريس لأنني اصر على التمتع حتى الثمالة بباريس وروائحها الحية تاركا ورائي كل ما هو غير باريس في تلك اللحظة. ولا تشتعل نار ما في رأسي حين أتبختر في شوارع نيويورك ـ ومانهاتن تحديداً ـ لأن غرضي هو التجربة الأولى في حاضرة العالم الحي اليوم والإحساس الأفضل بالحضور في عاصمة المعاصرة. ولا ألعب أبداً لعبة اشتقاق الحلول لمعضلات عالمي العربي الراهن مما يسمى بـ«التراث»، لان علوم زمني وثقافة زمني وأفكار زمني ومشاريع زمني هي التي تفسر التراث وتحتويه وتعطيه معناه وتقدم الحلول لمشكلاته، وليس العكس على الإطلاق.
يعني هذا ايضا أنني شخص أممي، أي «كوزموبوليتي» بالمعنى اليوناني الاصلي للعبارة، كما قصد إليه الفيلسوف القديم ديوجينوس، أي «المواطن العالمي»، او الإنسان الذي يشعر حقا بأن عالم الإنسان كله هو وطنه بلا ضفاف او حدود، وذلك لاسباب فلسفية وثقافية وعلمية كلية جامعة تسمو فوق القبيلة والعشيرة والمدينة والدين والمذهب والطائفة وسجن اللغة والمحلة، وقبل كل شيء فوق صدفة مكان مسقط رأسي وزمانه ومكانته.
هذه فكرة إنسانية قديمة هائلة وعظيمة، ويبدو ان زمانها قد جاء أخيراً وحان تدريجا في عصرنا الحاضر، وأنا جزء واع كل الوعي من هذا العصر. كوزموبوليتيتي هذه تحمي وطنيتي المحددة ومواطنتي المتعينة من التعصب والعماء، ومن أمراض التضخم الاجوف للذات الفردية والجماعية، كما ان وطنيتي هي التي تحمي كوزموبوليتيتي من أخطار التجريد المتعالي الى حدود الفراغ. وأنا على استعداد، بالتالي، للانتماء براحة وسهولة والفة الى مجتمع مدني عالمي او دولي، ان هو تشكل وأخذ ابعاده الحقيقية، الى جانب انتمائي العفوي والتلقائي والطبيعي الى بلدي ومدينتي وثقافتي المعروفة كلها.
أقدم نفسي كمثقف ومفكر وكاتب حاول ما استطاع الاقتداء بالحكمة السقراطية القائلة بأن الحياة غير المفحوصة جيدا غير جديرة بأن تعاش أصلا، علما بأن عملية الفحص هذه لا تنحصر في حياة الأفراد والأشخاص والنخب وحدها، بل تتعدى ذلك لتشمل حياة الجماعات والمجتمعات والثقافات والمؤسسات التي ما زال فيها شيء من حراك، او بصيص من أمل. أما الأداة السقراطية الرئيسية في عملية الفحص والامتحان هذه فهي العقل بمعناه التساؤلي والنقدي والسجالي والمعياري والأداتي مع رفضي كل محاولة لرفع أي موضوعات، مهما كانت، فوق مثل هذا الفحص، أكان فردياً أم جماعياً، باسم توجه الناس نحو السماء وباسم القداسة والمقدسات، على طريقة الدكتور محمد أركون المعهودة. وجدت بالتجربة كذلك ان عملية الفحص ذاتها كانت، في الواقع، تثير من الاسئلة والتساؤلات وتبرز من المشكلات اكثر مما كانت تزودني به من الاجابات الشافية او الحلول الناجزة. لكنني قبلت بهذه النتيجة القلقة وعايشتها على الدوام، اولاً باعتبارها من طبيعة واقع الحياة بعيداً من كل خلاصيات ومطلقات وغيبيات ودوغمائيات، وثانيا باعتبارها حافزاً رئيسا على الاستمرار في الفحص والبحث والفهم والنقد والتمعن الى ما لا نهاية.
أحاول ان أحيا قدر الإمكان حياة العقل والتعقل والعقلانية في شؤوني الخاصة كما في الشأن العام. أما مدى نجاحي او اخفاقي (او شيء ما بين البينين) في هذا السعي، فهو مسألة لم احسمها بيني وبين نفسي بعد، تماما كما انني لم احسم الى اليوم هل ان هذا النوع من الحياة جدير بأن يعاش ويمتدح حقا وفقا لما علّم سقراط؟ اقول هذا عن نفسي لأنه لا رغبة لديّ في مصادرة حق الآخرين، بأي صورة من الصور، في انتقاء أساليب حياتهم وفي تحديد اختياراتهم وفي ابتداع توجهاتهم الخاصة والعامة عند صنع أنفسهم وتحديد مصائرهم في رحلة الحياة.
وجدت بالتجربة الحية ان ممارسة الحكمة السقراطية ذاتياً وعلى العموم تستدعي الحرية والدفاع عنها، وتتطلب النقاش والاقناع والاقتناع وليس الوعظ والتلقين والفرض، وتحتاج الى حس نقدي عال والى محاولة كل فرد منا، ككيان مستقل وكذات عاقلة وكطاقة فاعلة وليس كقطيع، التوصل الى تشكيل قناعاته الخاصة عبر إجراء محاكماته الشخصية واستخلاص استنتاجاته الملائمة بنفسه. لذا لم احب أبداً المريدين والأتباع والحفظة وشيوخ الطرق (بعمامة او من دونها) والمقلِّدين والمقلَّدين والوعاظ وعبدة الشخصيات، وفضلت عليهم دوماً الزملاء والأنداد والخصوم والنقاد والأصدقاء، بخاصة إذا كانوا من أهل البحث والعلم والنقاش والسجال والجدال والمراجعة والاختلاف ورد الصاع صاعين إن اقتضت الحاجة.
في تقديم نفسي هذا الكثير من النمذجة الواعية التي ننشئها عادة من مكونات مجريات الحياة وعناصرها ونثرياتها، لنعود الى قياس الحياة ذاتها على تلك النماذج، والى امتحان النماذج نفسها مجدداً على مجريات الحياة إياها بكل تطوراتها وتفاعلاتها وتجديداتها. أنا شخص حاول عبر هذه النماذج والتجريدات ان يستوعب العالم الكبير المحيط به وان يفهمه وان يفعل فيه فعله أيضا. كما حاولت في حياتي الشخصية والعملية والمهنية والفكرية والثقافية والكتابية ان اقترب من هذه النماذج وان اتشبه بها وان أتفاعل معها وان أحاكمها وانتقدها أيضا، كما عملت على ان أحياها، الى هذا الحد او ذاك، ممارسة وتطبيقا وفعلا. اعتقد أني نجحت الى حد معين في مسعاي ـ واترك تقدير منسوب ذلك الحد ومستواه الى الغير ـ كما اعتقد أني بعيد كثيراً عن ان أكون قد أخفقت إخفاقاً كاملاً على هذا الصعيد، وبالتأكيد لا اعتذر عمّا فعلت.
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد