صحوْتُ فوجدتُ النّصَّ مكتوباً..
على الرصيف في شارع الباكستان، كنتُ بصحبة أخي مراد الأكثر غجرنةً من راقصات الملاهي.. أدقّ كأسي بالهواء فالنّديم شَفَطَ حصّته بسرعة معوّلاً على مفعولها في الرأس، لا على جمال المجالسة. لم أتذمّر فأنا أفهم أنّه يُطبّق شعاره الدائم: «سندوخ»!!
رأيتُ شخصاً مقبلاً. قلتُ لمراد: «إنّه خوسيه أركاديو ابن عائلة بوينديا الذي هرب مع الغجر طفلاً، وعاد، بعد سنينٍ، غولاً بشرياً، فلنهربْ..». غمغم بلسانه الذي بدأ يثقل، دون أن يفهم قصدي: «هذا أبو الهيجاء الذي كان يعذّبنا في الطفولة، أنسيت كم مرة حشا مؤخراتنا بالفلفل الأحمر؟». «ألعن» قلت. بالكاد أكملت الكلمة وإذا به يقبض عنقي بعنفٍ، ويلوي ذارعي. إنّه أبو الهيجاء حقّاً، لكنّ جسمه موشوم مثل خوسيه أركاديو في تلك الرواية الماركيزية. مراد الدائخ لم يفزعْ لأخيه الذي سيتبهدل، لم تأخذه حميةٌ ولا هزّته نخوةٌ، وهجمة أبي الهيجاء كلّها من أجل تشليحه الموبايل الفخم الذي اشتراه بالتقسيط، بهدف التبجّح به أمام الفتيات. أوووه، ليت هذا الوحش جاء، كما في السابق، ليلقّمني الفلفل في أسفلي!
بين خوفٍ يطلع من طفولة بعيدة، وألم استحكامه بي، والشعور بإهانة السلب، أطفأتُ جمرة السيجارة في ذراعه، فجاءت الجمرةُ صدفةً على رسمة البركة الوشمية. سمعتُ صوت "تششش"... حين خرّ رحتُ أطعنه بقلمي البايلوت. هالني أنّ القلم والسيجارة سببا هزالي سيكونان سبباً للقوّة في قتال شوارع مباغت، وأنني سأفوق، في يوم من أيامي، سرعة جاكيشان في أفضل أفلامه.
وجدت نفسي أقود باص "نقل داخلي" بتهورٍ انتحاريّ على طريق طويل.. طويل جدّاً، مثل ما لا يحدث إلا في عوالم توم وجيري. الدواليب تقدح شراراً، والهواء يصفّر من النوافذ. عطل مفاجئٌ أوقف الحافلة الحكومية ـ سحّارة الحديد، فحرنتْ كحمار عجوز. أدركنا شرطي المرور الذي كان يطاردنا ولم ننتبه. صعد الرجل فأشعلت سيجارة فوراً، وتحسّست القلم، وكلّي ثقة أن شجاراً آخر سيكون لصالحي بوجود هذه الأسلحة الخفيفة. الغريب أنّ الشرطي امرأةٌ، وأية امرأة؟ إنها الإمبراطورة جنيفر لوبيز شخصيّاً!! رآها مراد تنظر إلى هاتفه المحمول حيث ثبّتَ صورتها خلفيّةً، ومباشرةً قال لها: «لنرقص معاً». دَوَخَانه كان مغوياً أكثر من ريتشارد غير الذي شاركها بطولة فيلم تسمى بتلك العبارة. استثيرت بحرارة دعوته، رَمَت الخوذة فاندفع شعرها موجةً من الخرّوب الطازج (صباح البارحة علقت على شفاهي أغنية: "والشعر خروب يتلاعب عالأكتاف"). جذبتْهُ خارجاً ورقصا التانغو (من أين لأين يا مراد، وأنت الذي لا تعرف رقصة إلا الدبكة؟!!).. بعدها ركب خلفها على الدراجة النارية مطوّقاً خصرها بزعرنة ودونجوانيّة لتطير الشرطيّة الحسناء بسرعة مخالفة لقانون السير.
ترجّلت وما أزال مفكراً بالمشهد السابق: لا حبّ بدون ارتكاب مخالفات. انتبهتُ الى المكان، ومثل صلاح جاهين قلتُ: "عجبي!!".. لا أزال في نفس النقطة التي انطلقت منها في شارع الباكستان وكأنني لم أتحرّك. قُدماً سرت، فإذا بي، وبشكل مونتاجي غير مفهوم، أدخل متحف اللوفر. جاءني يقين أنّ هذا من أثر قراءة نص "شيفرة دافنشي" بالأمس.. نسيت خواطري وأنا أرى الموناليزا تخرج من الإطار، مثل أغنية فيروز "وأنا هربت من الشباك". مسحتْ عن نفسها لطخات الألوان بوضعها بعض اللعاب على الأصابع، لتظهر بعد لحظات، امرأة أخرى، أفتى وأفتن، إلى درجة سيّلت لعابي. تقدّمتْ مني: "لنخرج قبل حدوث جريمة روائية أخرى".. لمحتُ، قبل المغادرة، أنّ اللوحة، والمرأة التي فيها، كما هي على حالها، ولا تزال معلّقةً على جدار القاعة الخاصة بها.. فمن هي هذه التي معي؟؟
كان اقتراحها الذهاب إلى ديسكو في فندق قريب، لكون الرقص أفضل من كل مراهم العظام، كانت حاجتها له ماسة خصوصاً بعد الوقوف الطويل تحت تأثير التنويم المغناطيسي الذي أدخلها فيه دافنشي، (هذا الذي اكتشفتْ مؤخّراً أنه مشعوذ أكثر مما هو فنان، والسّبب رواية دان براون). أمام الفندق استغربتُ، فهذا ليس إلا "فندق الشام"، وهذه منطقة الصالحية. صوتها الداعي إلى الدخول خلصني من تردّدي الصامت.
في المرقص رأيتُ محمود درويش ببروتيل أحمر وسروال قصير، وفي عنقه قلادة سميكة كراقصي الراب، مع أنّ هيئته تطابق الصورة التي ظهر بها على غلاف الطبعة الأولى من كتابه "حصار لمدائح البحر"... (ومرّة أخرى استحضرتُ صلاح جاهين: "عجبي!!").
أعجبني الشاعر برقصه البارع، فبكثير من البلاغة الجسدية كان قد استحوذ على فتاتي. وكم كنتُ سعيداً إذ راح يرقّصها بشهوانية جعلت من لهاثها مسموعاً رغم زوابع الـ"دي جي" وأعاصيره في المكان.. محمود كان يضمّها ويرخيها صارخاً: "أكلّما وجدت أنثى أنوثتها/ أضاءني البرق من خصري/ وأحرقني؟"، وعيناه تنبشان ملامحها بحثاً عن لغز، لغز خطير أجزم الآن بأنني وحدي من يعرف به. ولما أوشك على اكتشاف أنها ريتا ملهمته في أكثر من قصيدة أهمها "شتاء ريتا"، غادرتْ مربع الراقصين وشدتني خارجاً بسرعة تزايدتْ، إلى أن أصبحت ركضاً في أروقة الفندق، شيء يشبه مطاردة بوليسية تجيدها الأفلام الهوليودية. دخلنا إحدى الغرف، ووضعنا عبارة "يرجى عدم الإزعاج"، وبينما رحت أراقبُ الممرّ من عين الباب، التفتُّ خلفاً فلم أجد موناليزتي، فتّشت. وقع بصري على زجاجيّةٍ موضوعة على كومودينة السرير طُبِعتْ عليها نسخة من اللوحة الأشهر في العالم، غمزتني بعينها، ثم عادت إلى الجمود، فغادرت المكان. (أظن أن فكرة الغمزة جاءت من دعاية تلفزيونية قديمة.. على الأرجح!!).
أرسم قرب الجامع الأموي بدافع الرسم فقط. يداي الفقيرتا الموهبة تعوّضان عن بهاء الحرفية الناقصة بألوان البهجة.. أرسم الأشياء فتصبح حقيقيّةً.. ضربٌ من السحر والإبداع تواشجا في يدي.. أرسم أضواءً وأبلّط بها أرضية المدينة، ثمّ شفاهاً حمراء أجعلها نوافذ للمباني والبيوت، وغرفاً أنتزعها من القماش، وأوزعها في الأمكنة المختلفة، لتكون وقفاً للعشاق.. وأرسم طائرة ترشّ دولارات على الناس، وهذه تحديداً أرسلها باتجاه العشوائيات والضواحي.. فالمعجزات، على ما أظن، لا معنى لها ما لم تكن بالعملة الصعبة!!
وحدث أن وجدتني في حديقة الجاحظ في حي أبو رمانة.. وهذه المرة كنتُ أرى المتنزهين معلباتٍ تقتعد الكراسي.. علبة المرتديلا التي ترتدي مانطو الكتّان الكحلي، وإلى جوارها علبة فطر ببيجامة ولادية، هي أمٌّ وابنها. علبة السردين المفتوحة، بحيث يلحسها قطّ دون أن ينجرح لسانه موظّف متقاعد حديثاً. الكونسروة الفاسدة من سوء التعليب و.. الهذيانات ليست أحداً سواي.. بالتأكيد، مئة بالمئة، بل مليون في المئة، هذا كلّه صدى لحديثٍ حضرته مؤخراً في منزل صديق مهموم بالسياسة، أرهق الحاضرين بفكرة تعليب الشعوب..
اللعنة على الصورة القديمة! ما الذي جاء بها الآن وقد قطعتُ علاقتي بها منذ أكثر من خمس سنوات؟؟ أتذكر أن بروش الممثلة في مسرحية "الموت والعذراء" وقع فالتقطته بخفة في عتمة الصالة. قلت وقتها: "سأنتظرها حتى تموت، فمن تؤدي دور باولينا سلاس، بهذه النارية، لن تعيش طويلاً".. فعلتُ ذلك رغبة في إضافة شيء على متحفها، والآن ها أنذا على نفس المقعد قبل سنتين. تُرفع الستارة، فتطلق باولينا بصقتها السوداء: "لا أحد يفكّر بالحب". الكراسي تصير مقاعد بعجلات، لكنها ثابتة.. تتخشّب الأجساد، وباولي تضبط الأنفاس، شهيقاً وزفيراً، كأنها مايسترو يوشك على إعطاء رئاتنا أمر التمزّق. الكهل، جواري، يفتش بيدٍ مرتجفةٍ عن منديل صبيةٍ، يبدو أن حبّها آخر لقاء عزرائيل للحظة المونولوج. ينظر في التطريز ويرخي رأسه. المرأة، أمامي، يجفّ شعرها، ويشيب خصلةً خصلة، أرى سريان البياض السريع فيه بأم العين. تَسحَل الأجساد عن المقاعد تباعاً.. ويتتالى صدى الصرخات من جنبات الصالة. إنها وليمة عذاب في حضرة المنصّة ـ العرش. وحده فتى حديث الفتوّة، يخرج مليئاً بالرضى، شامتاً بالآخرين، ووجهه يقول أنّه لا يزال يفكّر بالحب. بقليلٍ من التمحيص في ملامحه أعرف أنه أنا في أولّ حبّ.. لكنه يمضي دون كلمة وداع..
في سير ذاهل عقب العرض، أنتبه أنني في سوق ورّاقين، يعود إلى العصر العباسي. أعرف شخصيات المكان كلّها، هذه الشاعرة، وهذا الأديب، وذلك الفقيه. إنهم أولاد حارتي، ولا علاقة لأحدٍ منهم بهذه المسميات. الشاعرة لا تعرف من الشعر إلا قصائد مُرَاهِقة جمعتها في دفترٍ جنباً إلى جنبٍ مع صور المطربين. والأديب المفوّه مهرّب، حريته بفضل علاقات زوجته بالنافذين. أما الفقيه ذو اللحية والعمامة فشخص أمّي تماماً، غبيٌّ بالوراثة، ويدمن أكل السكر، وأفظع ما قدّمه للحياة أولادٌ يشبهون الضفادع. (هل هذه اللقطة إشارة إلى منجم كتابي في متناول اليد؟ أم هذرٌ محض؟ لا أدري!).
فجأة أجدني في لعبة كرة قدمٍ، لا شكّ هي تنفيس عن رغبات أشعلها المونديال الأخير في الأعماق. أحمد المعروف بـ"أبو الموت" أحد أكبر وأعتق زعران المخيمات يقلّد رونالدينو، وبمواجهته حسين الشهير بالدروشة وبلقب "أبو الزبل" متحفّز للاستحواذ على الكرة. أبو الموت يَخْرم، وبينما يشعل سيجارة بقداحة يستعيرها من الحكم يسلب أبو الزبل الكرة بسهولة، ويعدو إلى جهة المرمى، في هجمة مرتدة غير نظيفة. أضغط زر "stop"، فهل يعقل اللعب بهما في "الفيديو جيم"؟ لا بدّ من إنهاء المهزلة، ولكنّ السؤال الحارق من حوّلهما صوراً رقمية؟ بهذا القرار أضع فيروساً يدمّر البرنامج. ويا صلاح جاهين (عجبي!!) أن الفيروس سائلٌ في أنبوبةٍ وليس الكترونياً. أصبه على الشاشة، فيتألم الشابان وصراخهما يملؤني بالرعب. أعرف (ربما من هاتف في الغيب) أنّ ألمهما لا يأتي من فتكي بهما، بل من رفضهما أن يستخداما في نص حتى لو كتبه نجيب محفوظ (هذا ما قالاه لي مراراً). يرنّ تلفوني، أفتح الخط، وأحدّث مجهولاً، يخبرني أنّ منامه التقى منامي، ويهددني بالقصاص.
ها أنذا في الكابوس وحيداً.. ألوذ بالمقهى، فأجده كهفاً ومن هم على كراسي الخيزران مجرّد تماثيل حجرية كانت كائنات المكان. كأنّ أحداً أدخل رأس ميدوزا فحوّلهم، هم وأكوابهم وجرائدهم وعلب دخانهم، حجارةً. أتحسّسها فتتفتّت. ويلي حتى التماثيل تتآكل من وطأة الضجر!!
أمارس هوايتي المفضلة: قتل الحشرات، وفي رغبةٌ باستعادة أيامي الرائعة مع أدواتي الإجرامية: جهاز الأقراص، البخّاخ، قتّالة الذباب، جهاز النيون الأزرق.. في ما مضى كنت أسمي غرفتي "أوشفيتز"، وأخرج نازيتي المتوارية، دون الارتواء بأقل من حرب إبادة مفتوحة. لطالما كنتُ استغرب ممن يقولون جهاراً بعجزهم عن قتل نملة، ونرى احترافهم التدمير بأشكال عبقرية إذا ما قورنت بالقتل سيبدو أمامها سذاجة!! أنا، بكلّ فخر، قاتل حشرات!! بين يدي الآن خنفساء، أتسلى بتعذيبها بداية، أحرق الجناحين بلهب الولاعة أو وهج السيجارة، فلا تصرخ. أغرس مسماراً في أطرافها ولا تتألم، ولا تتوسل من جبروتي الرحمة. اللعنة.. أهرسها برجلي.
أجمل ما في الأمر أنّي أجمع الجثث في علبة صغيرة، بمثابة مقبرة جماعية. كلما تأملتها أخذني الزهو إلى معرفة متعة الاستبداد الألوهية.
أكتبُ كلماتٍ أخيرة فأصحو مباشرةً، كما يحدث حين أحصل على مالٍ في منام، وبغضبٍ أتأمل يداً فارغة عند الاستيقاظ. هذه المرة أصحو فأجد النص الذي عشته بطول نومي، في سرنمةٍ من نوعٍ آخر، أخذتني إلى الكتابة نائماً، وإلا من أين جاءت هذه الأوراق؟
.
.
.
.
.
.
أصحو فأجد أخي مراداً يشخر وموبايله الفاخر يرنّ بنغمة نوكيا..
رائد وحش
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد