صناعة الكلام وتسويقه في مجلس الشعب
تتميز الأمم و الشعوب بعضها عن بعض بالمدى الأقصى الذي تذهب إليه للاستفادة من الوقت . فهذا العنصر الحضاري الثمين الذي شبهه بعضهم بالذهب , هو في الحقيقة أعلى مكانة من الذهب . فالذهب يعود إذا ذهب بينما الوقت لا يعود فهو كعود الثقاب لا يشتعل سوى مرة واحدة . و من أجمل و أبلغ ما قرأت حول أهمية استثمار الوقت في فلسفة الكلام , قول حكيم : أصمت ما لم تضطرك الى القول حاجة , و تكلم إذا كان الصمت راجعاً عليك بالحجة . و قول ابن المقفع : اعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم , و إن مالك لا يسع الناس كلهم فاخصص به أهل الحق.
ما يدفعني إلى هذا القول هو شلالات الوقت المهدور في حياتنا اليومية و لعلي لا أخطىء القول إذا قلت إن علاقتنا نحن العرب بهذا المفهوم ( الفيزيائي في جوهره ) تتسم بالكثير من السلبية إن لم أقل العدائية حيث تذهلك اللامبالاة بالوقت في كل مفردة حياتية نعيشها في العمل , في الشارع . في السلوك , في اللغة, في جلساتنا التي نستهلك فيها وقتاً طويلاً في مناقشة قضايا صغيرة , ربما لا تحتاج سوى لجزء بسيط مما ننفق من وقت , و لا أريد الخوض في أسباب ذلك فلربما كان ذلك في حديث قادم . ففي مجلس الشعب مثلاً لا تكاد تخلو جلسة من جلساته من هدر وفاقد في الوقت غير معقول و غير مبرر رغم كل وسائل الضغط و التقيد المفروضة من الرئاسة بضرورة احترام الوقت و عدم التكرار . و لهذا أسبابه و دوافعه فهناك من الأعضاء من يتكلم من أجل الكلام كما هناك من يتكلم من أجل الوقوع في المدى الضوئي للتلفزيون فيراه الناخبون ما يجعلهم يطمئنون إلى أن أصواتهم قد و ضعت في الصندوق الصحيح !. وهناك من يتكلم مدفوعاً بالضرورة و اسقاط الواجب إذ لا يعقل أن يصمت
و سيل الكلام يحيط به من كل جانب ! و لكن بالمقابل هناك أعضاء و هم يشكلون النسبة الأكبر يتسمون بالجدية و دقة الكلام و الحرص على الوقت . ما اريد قوله هو أن صناعة الكلام و انتاجه جزء رئيس و مكون هام من مكونات ثقافة الإنسان الذي يرتقي بمستواه إن هو استطاع التعبير بأقل كمية من الكلام , في أقل كمية من الوقت لإنتاج أكبر كمية من الفائدة . وهذا الأمر ليس مرتبطاً بالمستوى الأكاديمي للعضو كما قد يبدو للوهلة الأولى فهناك من الأعضاء من تخرج من جامعة الحياة تراه إذا تحدث أبلغ و إذا صمت ففي صمته حكمة ووقار . و في ميدان كمجلس الشعب تصبح عملية إنتاج المعرفة بالتكاليف الأقل ضرورة و فضيلة . ضرورة في الاستثمار و حسن التوظيف و فضيلة في إفساح المجال للآخر ليتحدث بمعنى آخر أن تتحدث أنت و تفسح في المجال يتحدث الآخرون . فإذا تحدث الجميع وفق هذا النسق فإن الفائدة تكون أكثر و إمكانية أن يتحدث الجميع , إمكانية قائمة إذا التزم كل عضو بسياسة المدخلات الأقل للوصول إلى المخرجات الأكثر , وأريد أن أخلص الى القول : إنه لا ينبغي أن يفهم من كلامي اني أدعو إلى الصمت أو إلى مجلس يصمت فيه الجميع فهذا من المنكرات و الكبائر و لكني أدعو إلى مجلس يتحدث فيه الجميع برشادة و موضوعية , منهم من يتحدث بلسانه و منهم من يتحدث بأذنيه و يحضرني في ذلك قول قرأته : إن تحدث قوم في مجلس الأوزاعي / وهذا الإمام الذي ولد في عام 707 و توفي في عام 774 هو أحد كبار أئمة الإسلام في الفقه والتسامح الديني / و معهم اعرابي لا يتكلم فقالوا له : بحقٍ ما سميتم خرس العرب . فقال : إن الحظ للمرء في أذنه و حظ غيره في لسانه. فذكرنا ذلك للأوزاعي فقال : لقد حدثكم فأحسن .
د. سهيل عروسي
المصدر: الثورة
إضافة تعليق جديد