صنع الله إبراهيم.. سيناريو من التاريخ واحتمالاته القصصية
يقدم الروائي المصري صنع الله إبراهيم في كتابه الأخير "العمامة والقبعة" عملا ممتعا ذا حدود مرنة.. إذ يمكن أن يقرأ كرواية كما جاء في وصفه.. كما يمكن أن يقرأ كعمل تاريخي فهو لم يبتعد كثيرا عن حقبة من التاريخ عرفناها من خلال عبد الرحمن الجبرتي.
قدرة صنع الله ابراهيم على السرد المشوق جعلته يحول احتلال نابليون بونابرت لمصر سنة 1798 كما ورد عند الجبرتي الى ما يشبه سيناريو ممتعا والى عملية احياء او اطلاق للاحتمالات القصصية الجذابة التي وردت عند الجبرتي وان في صورة مادة "خام" نوعا ما بمعنى ان الناحية الفنية لم تكن في البال عنده او لم تكن همه الاول.. وهو امر متوقع في تلك الحقبة.
في الرواية -والشيء بالشيء يذكر دون ان يكون القصد الحديث عن مقارنة او اظهار تمايز- تقفز الى الذهن سلسلة روايات جرجي زيدان عن تاريخ الاسلام من حيث الالتزام عادة بالحدث التاريخي وان جرى تفسيره او فهمه في شكل مغاير نوعا ما.. وفي الوقت نفسه استغلال "الفسحات" القائمة بين الاحداث لنسج قصة حب تحمل فضلا وان مداورة احيانا وجهات نظر معينة.
الا ان قصة الحب او العلاقة المتصورة التي اقامها ابراهيم بين شرقي هو احد مريدي الجبرتي وغربية فرنسية هي شخصية تاريخية تدعى بولين لسلي فوريه التي عشقها نابليون في مصر لم تخرج عن صورة تكررت في اشكال متعددة في اعمال كثيرة منذ وصف رفاعة الطهطاوي لباريس وقلة "عفاف كثير" من نسائها وخيانة زوجة خطار بطل قصة "ساعة الكوكو" الامريكية وان كان لها من اصل شرقي عند ميخائيل نعيمة.
وهي كذلك تقول القول نفسه تقريبا الذي قاله محسن بطل رواية "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم بعد ان "خانته" حبيبته الفرنسية سوزي التي اقامت معه علاقة جنسية لكنها لم تقل له كلمة "احبك" ولو مرة واحدة. ولعلنا نستطيع ان نجد شيئا يشبه هذا حتى في مغامرات بطل الطيب صالح في "موسم الهجرة الى الشمال".
والفكرة عامة وان كانت وليدة اختلاف حضاري واجتماعي يتعلق بموضوع حرية المرأة جسدا ونفسا في الغرب يبدو انها تحولت الى صورة نمطية الى حد ما. والصور النمطية ليست وقفا على الشرقيين كما يظهر لنا مثلا من كتاب "الاستشراق جنسيا" الذي كتبه ارفن جميل شك وترجمه عن الانجليزية عدنان حسين وقدم له ممدوح عدوان. انها الصورة المعاكسة التي تتحدث عن شبق النساء الشرقيات ونساء "الحريم" في شكل خاص.
جاءت رواية ابراهيم في 332 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن (دار المستقبل العربي) في القاهرة. تصميم الغلاف لمحيي الدين اللباد ورسوم الغلاف الثلاثة لثلاثة رسامين فرنسيين هم سينيه وبيير جيرين وتارديو. الرسوم الثلاثة ربما كانت بليغة وساخرة في كلامها عن نابليون نفسه ونوازعه ومشاغله المختلفة.
التاريخ عند ابراهيم موثق مأخوذ من كتاب الجبرتي "تاريخ عجائب الاثار في التراجم والاخبار" بدقة. اما النسيج الروائي فهو يشكل عامل ربط بين الاحداث التاريخية وقد يلقي اضواء اضافية عليها او يفسر بعضها.
وقد استطاع ابراهيم ان يحول المواد التاريخية في طريقة اختيارها والتحكم بسياق تتابعها الى سيناريو مشوق والى ما يشبه عملية احياء لاحداث التاريخ وما يشبه عملية اطلاق للاحتمالات القصصية فيه او الى ما يبدو تطويرا لهذه الاحتمالات.
وقد استند ابراهيم في عمله هذا الى عدة مؤلفات اجنبية مترجمة وأخرى عربية عن فترة الحملة الفرنسية على مصر. وصنع الله ابراهيم لا يترك الاحداث "بكماء" بل هي عنده تندفع مباشرة او مداورة الى ان "تقول" اي الى ان تكشف عما وراء الحدث احيانا.
وتبقى المرأة شأنا مهما في الخفاء والعلن في حياة اشخاص مصر المملوكية في تلك الحقبة فضلا عن اهمية واضحة للجنس في شكله "الاخر" المتمثل بالغلمان عند شخصيات بارزة عديدة من تلك الحقبة.
وعلى رغم اعجاب واضح عند ابراهيم بالجبرتي الى درجة انه يبدو لنا احيانا يشرح بعض ما قام به من تصرفات بل يبررها. ويجري معظم ذلك من خلال تلميذ الجبرتي الذي يسعى الى ان يحذو حذو استاذه فيكتب تاريخا موازيا خاصا به. الا ان بعض هذا التاريخ يبدو احيانا كأنه تمنّ عند ابراهيم لو ان الجبرتي لم يغفل بعض الامور والاحداث او انه لم يتنبه الى بعضها.
ويعرب التلميذ احيانا عن حيرة هي بوضوح حيرة ابراهيم وغيره ازاء بعض ما ورد عند الجبرتي. الا انها قد تكون حيرة ظاهرية وكأن فيها نوعا من التقدير لهذا المؤرخ المصري الذي لا يرى الامور بلون واحد فقط.
ومن ذلك مثلا قول التلميذ "يحيرني استاذي في تعليقاته فمرة يسخط على الفرنسيس وتارة اخرى على العامة والمهيجين الذين ورطوا البلد في فتنة." ويطرح ابراهيم وجهات نظر مختلفة في احداث ذلك الزمن ومنها ما يركز على مواقف يشرح اصحابها لنا انها وطنية وان بدا للبعض انها طائفية.
من ذلك مثلا ان التلميذ يتحدث الى صديقه القبطي "حنا" العضو في "الجيش القبطي" الذي دربه ضباط فرنسيون ويرد حنا على تساؤله قائلا "اسمع. مصر محرومة من جيش وطني للامة كلها بدلا من الجيوش المتناحرة للمماليك..."
اخذه صديقه الى قائدهم "المعلم يعقوب" وقال التلميذ انه رأى بين الحاضرين شيوخا مسلمين يستمعون الى يعقوب باهتمام. خاطب المعلم يعقوب التلميذ قائلا "اسمع انا لم اخن بلادي" وانه لم يفعل مثل عدد من الشيوخ المسلمين "الذين يذهبون متحمسين الى بونابرته كل صباح. لقد انضممت الى الفرنسيين بدافع رغبة وطنية لتخفيف معاناة ابناء وطني. هل يرضيك ان تظل مصر في يد الاجانب الاجلاف من اتراك ومماليك.. لابد من الخلاص منهم كي تستقل مصر وتنتقل بأكملها الى ايدي المصريين من اقباط ومسلمين..."
وقال انه لما خرج مع حنا "تبعته صامتا فلم اجد ما اقوله. فهي اول مرة اسمع فيها عن استقلال مصر."
وكشف الطالب عن انه روى لاستاذه الجبرتي ما قاله المعلم يعقوب عن المشايخ "فبهت ولم يعلق بكلمة.
"وعندما ذكرت له حديث المعلم يعقوب عن استقلال مصر اشاح بيده غاضبا.. "هذا ما حاوله وفشل فيه علي بك الكبير. فالدول العظمى لا تريد ذلك".
جورج جحا
المصدر: رويترز
إضافة تعليق جديد