ضحايا سيرك الثقافة
«الكذب لا يمكن أن يكون مفيدا للدولة»
فارلام شالاموف
المثقّف بوصفه ضحّية، يختلف عن ضحايا الاستبداد الآخرين، ليس من زاوية طبيعة الفعل الواقع عليه، بل من زاوية طبيعة الفعل الذي قد ينتجه من موقع الضحية. وعلى الرغم من أنّ مقولة وحدة الضحايا تبدو ساذجة وتجد كثيرا مما يدحضها في الحياة العملية، إلا أنّ هناك وهماً من تلك الأوهام الضرورية للحياة ـ والحياة بنصفها الثقافي لا تقوم دون أوهام ـ بدور يلعبه المثقف في توحيد ضحايا الاستبداد المشتتين، المنقسمين حتى على أنفسهم والمنطوين على قهرهم وآلامهم وخيباتهم. وفي الوقت الذي تجد فيه مثقّفين حقيقيين يلعبون هذا الدور، مستندين إلى وحدة الآلام والمعاناة البشرية ووحدة الاستغلال والظلم والتعسّف والشر عموما، ووحدة الموقف ضد هذا الأخير، بتجلّياته المختلفة، في الفكر والفن والسياسة والثقافة عموما، في هذا الوقت تجد مثقفين آخرين يُعلون من شأن معاناتهم الشخصية مبخسين معاناة الآخرين، ويتّوجون الضحية في أنفسهم مَلِكاً على ضحايا الآخرين. فإذا بتراتبية تعزز انقسام الضحايا، معزّزة في الوقت نفسه قدرة المستبد الظالم، مطيلة من عمر ظلمه، بصورة تلقائية، وبصرف النظر عن رغبة الضحية الملك. فما هو الدافع إلى ذلك؟ هل هي علّة أخلاقية أم نفسية أم أكثر من ذلك وأعقد؟
يقول فارلام شالاموف الذي أمضى أكثر من عقدين من الزمن في ظروف اعتقال وعمل شاق وحشي في معتقلات ستالين، واصفاً سلوك الضحايا (المعتقلين): «عندما يرى الإنسان أن جرمه الشخصي مفبرك بهذه الصورة اللامعقولة، يتعامل مع مصير رفيقه بتسليم وثقة، ويسعده أن يشاركه قدره، بل يعتز بذلك، وعندما يعتقلون الكريم، يثق وهو المعتقل دون ذنب أن من يجاوره في السجن ليسوا إلا ضحايا مثله، أمّا عندما يحبسون الخسيس، فيفكّر بأنّه الوحيد المظلوم هنا، بينما يستحق جميع من حوله السجن..». هذا في السجن، أمّا خارجه فالصورة ليست أفضل، وليست إلا من طبيعة ما تعلّمته خلايا دم شالاموف قبل أن تتعلمه خلايا دماغه. خارج السجن يقوم الخسيس تلقائيا بتبخيس سجن المسجونين، واحتقار القضية التي سجنوا من أجلها حين تكون هناك قضية، أو التقليل من شأن الظلم الواقع عليهم حين يكون في سجنهم ظلم فاضح واضح لا يواجه أيّة قضية ولا يستند إلى أي سند قانوني. أمّا حين يكون المثقّف خسيساً فيفعل ما هو أكثر خسّة من ذلك، يفعل ما من شأنه أن يُجمّل الظلم ويحط من قدر السعي إلى الحرية والعدالة، ويلوّث الساعين إلى هاتين القيمتين العظيمتين من أجل أن ينفضّ الناس من حول الساعين إليهما ومن حولهما فينبذوهم وينبذوهما.
يفتح المثقف المتدفّئ بفراء الضحية زجاجته العتيقة فيخرج منها المارد المطواع: شبّيك، لبّيك.. فيأمره بأن يفقأ عيون من لا يرون فيه أشد من قاسى وكابد ظلم الاستبداد. والمارد ليس بحاجة إلى ما يثبت قول سيّده الذي حرّره من الزجاجة، حتى لو رفل هذا السيد في نعيم الطغيان وجنّات الفساد! فتقول السهرات وتقول القصص والحكايات والقصائد والروايات (إنّه أكثر المكابدين) لكن الناس ما عادوا يؤمنون بغيلان المثقفين وعفاريتهم، وخاصّة أولئك الذين يؤكد دم الضحايا الحقيقيين خستهم، ومناصرتهم للكذب ـ أداة التعسف الأهم، الأداة التي تعيد الثقافة إنــتاجها وشحــذها كلــما صدئت.
وكثيرا ما يلجأ الكسالى إلى فراش الضحية حيث يُمجَّد الكسل بوصفه شكلا من أشكال مقاومة الاستبداد. فأمّا المثقّف، فكسله منتج، والضحية المدّعاة فيه أو المضخّمة، ضحية فاعلة، مولّدة، غالبا، لنتاج يُجمّل العجز واللامبالاة. فركون المثقف إلى لا مسؤولية الضحية ينتج نزوعاً إلى البحث عن ضحية، يتكئ عليها في تاريخه الشخصي والعائلي والاجتماعي، ضحية هي بمثابة براءة ذمّة وملاذا آمنا من جهة ووسام شرف من جهة ثانية، ودرع بطولة وهمي للموغلين في الاستسلام للضحية في أنفسهم من جهة ثالثة. وهي ضحية مولّدة للاستسلام، خلافاً للمألوف، حين يتزامن البحث عن ضحية مع بحث عن جانٍ، ويولّد رغبة في إحقاق الحق والعدالة. وحتى حين يجري الفعل الأخير في المثقف الضحية فهو إنّما يتجه نحو ضحايا أكثر بؤسا وأكثر ضعفاً منه، ليكون على خلاف مواطنيه ضحيّة مزدوجة، أو (ضحيّة ركن) أسوة بالرتب العسكرية، على اعتبار أنّ على الجميع أن يعترفوا به ضحية من الدرجة الأولى، وعلى اعتبار أنّ مستوى الضحية الأوّل متحقق فيه بوصفه مثقّفا وليس بحاجة لأي إثبات. فالمثقّف الضحية يكتهف فكرةً مفادها أنّه وبصرف النظر، أوّلاً، عمّا يقول به ويشتغل عليه ضحية تلقائية لسلطة مستبدة معادية للثقافة، ثم بصرف النظر، ثانيا، عن أن للاستبداد مثقفيه ورواته وشعراءه وصحافييه وفنّانيه وقد يكون واحدا منهم، وبصرف النظر، ثالثا، عن أنّه يمكن هو نفسه أن يكون جلادا، يسوط بحبره ولسانه أعداء الاستبداد، ويخنق روح معارضة الطغيان، حتى حين يتوهم خلاف ذلك، ناهيك بإيهامه للآخرين بصورته المدّعاة.
المثقف الضحية المزّيف مثقف حاقد بالضرورة، ولكن ليس بالضرورة على النظام السياسي الذي (أثخنه بالجراح وترك عليه آثار مخالبه الوحشية التي لا يغفل عنها إلا العميان)، إنّما على الضحايا الحقيقيين الذين من شأن وجودهم، مجرد وجودهم هنا والآن أن يفضح زيف الضحية فيه. وهو حتى حين يبدو كأنّه يذود عن العدالة، ترى العدالة لديه تتمثل في الاقتصاص من الضحايا الحقيقيين، أو في منازعتهم على فسحة الضوء أو لقمة الخبر أو حبر الاعتراف، أو الأشياء الأخرى المتبقية لديهم.
وعليه، فالعلة أخلاقية قبل أن تكون نفسية أو سياسية، ومعارضة الاستبداد والطغيان عموما مسألة أخلاقية قبل أن تكون سياسية. وهي أخلاقية خاصّة حيث ينتفي إمكان ممارسة السياسة. وحتى الموقف المتجمّل، في أمر سرقة معاناة البشر أو التقليل من شأنها، بالسياسة والاقتصاد والموضوعية التاريخية، فهو موقف له دلالته الأخلاقية قبل أن تكون له دلالات أخرى. والحديث هنا عن الأخلاق بوصفها قيمة إيجابية وليس عن الأخلاق المطاطة التي تتسع لكل شيء، بما في ذلك أن يزدهر مثقّف على مال منهوب أو مُجنى عبر قنوات الفساد المتحالفة مع الاستبداد أو الخادمة له أو المبيّضة لأمواله ثم أن يهدي حبره لضحايا نعيمه! ولا يرى المثقف الضحيّة ضيرا في ذلك، فضحيّة المثقف تلبس، أحيانا، نظارات سوداء، كمثل نظارات الجلاّد.
ومع ذلك، بل بسبب من ذلك، فالعدالة لا الانتقام هي القيمة التي يجدر بالثقافة أن تسعى إليها، وهي القيمة التي تفتقدها. ولكن هنا أيضا تجد أنّ المثقف الذي يحيا في جوف الضحية ويستعير سمات وجهها وسلوكها لا يتخلى عن فوقيته واستعلائه على مجتمعه، ولا تشغله مقولة العدالة من حيث هي تتضمن جذر مساواة. فإن كان ثمة عدالة تعنيه فهي تلك التي عليها ـ رغما عن أنفها وعن استسلامه لمضطهديه ليس أقلّ من بسطاء الناس ـ عليها أن تعترف بتفوقه على البشر جميعا، ذلك أنّ في استسلامهم على خلاف استسلامه نقائص العبودية والخنوع. وهنا نكون أمام فصام من نمط خاص. فهو ليس ذلك الفصام المولّد للابداع والمغذّي لقيمة الاختلاف وبالتالي حرية الاختلاف ولقيم المساواة والعدالة والحق المتأتية عنها، وهو ليس فصاما بين ضرورة العيش ورفض هذا الشكل الذليل من العيش، وضرورة القول ورفض القيود على القول، وضرورة التكيّف ورفض التكيّف بوصفه نقيصة بشرية كبرى خادمة للاستبداد والتعسف، والحديث هنا ليس عن التكيّف مع الطبيعة، بل عن التكيف مع الظلم والاستغلال ومع آليات الفساد وقنواته المظلمة، ومع الكذب. وليس خافيا أن التكيّف ينطوي على آلية خبيثة هي آلية إعادة إنتاج هذه القيم. فأنت لا يمكن أن تكذب إلى ما لا نهاية إذا كنت تعي كذبك. وما عليك من أجل التخفيف من معاناة معرفة الشيء وفعل ما يناقضه إلا أن تكف عن معرفته أو أن تعرفه كما يريد لك الشر أن تعرفه. هذا ما يفعله الخسيس، وأمّا الكريم النفس فيكف عن الكذب حين يعي أنه يكذب. وأمّا المثقف فعليه ما هو أكثر من ذلك، عليه أن يكف عن إنتاج ضحية مغرمة بجلاّدها، عليه أن يكف عن إنتاج ثقافة تمجّد الكذب، وتهيئ لكل أشكال الاستغلال والاستعباد.
ولكن، هذا ليس كل شيء، فثمّة مثقفون ضحايا حقــيقيون صامــتون، يذهلهم هول ما يرون في سيرك الثقافة، حيث المروّض والمهرّج والبهلوان يمجّدون معا الشيطان.
منذر بدر حلوم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد