عودة شيريهان.. إلى القرون الوسطى

15-11-2007

عودة شيريهان.. إلى القرون الوسطى

تكاثر، مؤخّراً، صدور فتاوى وتعليقات وإطلاق توجيهات دينية يتفنّن رجال دين في تدبيج محتوياتها المتعلّقة بشؤون الإبداع، إلى درجة بلوغها مرتبة غير مسبوقة من ازدراء الإنسان بإعادته إلى مجاهل القرون الوسطى، وبتفعيل الأميّة والتخلّف شرطاً ضرورياً للعيش اليوميّ في عصر لا يليق بهم. تكاثرت تصاريح هؤلاء، كأنهم مصابون بهوس التملّك الأرضيّ والسطوة الغيبية على البشر، خوفاً من خلل قد يُصيب مكانتهم المقدّسة في المجتمعات العربية، أو استباقاً لتحوّل سياسي في السلطة البوليسية تنحّيهم جانباً في لعبة التحالفات القائمة بين ديكتاتوريات حاكمة وسلطان مالي وشهوة حكم أمني منغلق. ذلك أن عدداً من رجال الدين هؤلاء مستمرٌّ في نزعته المؤدّية إلى تفتيت النتاج الإبداعي في لحظة تاريخية بدا واضحاً فيها أن النتاج الإبداعي العربي هذا مُصاب بوهن في المخيّلة وانهيار في المستويات الجمالية كلّها، فإذا بفتاويهم وتعليقاتهم وتوجيهاتهم تزيد الطين بلّة أحياناً، وتواجه آخر معقل للحرية والتقدّم، المتمثّل بجماليات إبداعية لا تزال تقاوم الرجعية والتزمّت والجهل. فالنتاج الإبداعي المتحرّر من أي قيد، والهادف إلى إثارة الأسئلة والحثّ على التنقيب عن أجوبة، أو عن إثارة نقاش إنساني منفتح وعصريّ وديموقراطي على الأقلّ، هذا النتاج لا يُلائم أناساً ارتضوا البقاء محاصرين في الغيب، ظنّاً منهم أن الحصار طريقٌ أكيد إلى كنز لا يفنى يحصلون عليه لاحقاً. لذا، وطالما أنهم منشغلون بهذا الكنز، فلماذا يوجّهون نيرانهم الحاقدة على ما تبقى من الجمال العربي المنبثق من النتاج الإبداعي؟ لماذا يسعون إلى تشويه الآنيّ في الثقافة والفنون، في حين أن القبح حاضرٌ في السياسة والاقتصاد والعيش والمجتمع؟ هل لأنهم عاجزون عن مواكبة العصر، أم لأنهم خائفون من «النار»؟ هل لأن النتاج الإبداعي الحرّ، على ندرته الجمالية، إلغاء لمكانتهم التقليدية في الجماعة، أم لأنهم يرفضون الجمال بأشكاله المختلفة، فيدّعون أن جمالاً إلهياً ينتظرهم في مكان ملتبس، وهم لا يعرفونه وإن ادّعوا نقيض ذلك؟
الفتاوى متنوّعة وكثيرة، آخرها: إنزال عقوبة الجلد ثمانين مرّة بحقّ كل من تثبت عليه تهمة نشر الإشاعات، ومنع الفنانين من القيام بزواج أو طلاق في أعمال تلفزيونية وسينمائية. هناك أيضاً تلك الدعوة التي وجّهها أحدهم إلى الفنانة شيريهان، طالبها فيها بضرورة التخلّي عن الفن لأن الشيطان مقيم فيه، قائلاً لها بوجوب الاهتداء إلى الله، لأن الله أنقذها من مرض لا يُشفى منه البشر عادة، ومشيراً عليها بنبذ معارفها والبقاء في بيئة صالحة ومؤمنة. بمعنى آخر: على شيريهان أن تسير على درب الله، وإلاّ فإن الله سيُعيد المرض إليها لأنها تخلّت عنه (أي عن الله) بعودتها إلى الفن. إنها بدعة أخيرة تفنّن بها يوسف البدري (ومن لا يعرف من هو يوسف البدري؟). إنها هلوسة جديدة تريد رجم من تسوّل له نفسه الخضوع لإمرة شيطان قائم في إبداع يتخطّى العقل البشري أحياناً لأنه متفلّت من أي رقابة تأتيه من هنا وهناك. إنه جنون لا حدّ له، يتناقض كلّياً والجنون الإبداعي الذي يدمّر الجدران كلّها كي يجعل من اللغة مرآة الذات والجماعة، وكي يصنع من الفن بهاء الحرية في القول والممارسة. لكن يوسف البدري وأمثاله لا يدركون السرّ الكامن في قوة الفن على اجتراح معجزة البقاء في مواجهة ثقافة القمع والتخلّف، المتستّرة في الدين في أحيان كثيرة. ولا يفهمون جمال الكون المصنوع من خربشات إبداعية نشأت من أول سطر كتبه الله في خلقه العالم. ولا يستسيغون قوّة الإبداع في جعل العيش أخفّ وطأة وأجمل من أن يبقى المرء مغمض العينين وسائراً كآلة موجّهة من يوسف البدري وأمثاله.
ظنّ البدري أن الصلاة وحدها قادرة على شفاء الجسد والروح (لا جدال في أن الصلاة حقّ لمؤمن يراها طريقاً أقرب إلى تفعيل علاقته بخالقه). ظنّ أن شيريهان لم تصلّ في ليالي أوجاعها المريرة، ولم تتوجّه إلى ربّها مع إطلالة كل فجر، ولم تذكر الله مراراً في محنها الكثيرة. هذا شأنها الذي تقضيه في حميمية علاقتها الخاصّة جداً بالله. هذه مشيئتها سواء ناجت ربها في مرضها أم بعد استعادة صحّتها. هذا حقّها في خلوتها الذاتية بالله، سواء آمنت به أم لا، فهذا شأنها لا شأن آخرين يتدخّلون فيما لا يعنيهم لأن لا عمل لهم إلاّ تنغيص العيش على الناس بأفكار متزّمتة وأقوال رجعية وإرهاب فكري. هذا لا يتنافى مع ممارستها الفن، رقصاً وتمثيلاً، لأن علاقة المرء بخالقه حكرٌ عليه فقط، أما الذين يتباهون بهذه العلاقة أمام الملأ، أكانوا فنانين أم رجال دين أم أناساً عاديين، فإن شكوكاً تحوم حول العمق الإيمانيّ الحقيقي الذي يتمتّعون به، لأن الإيمان الحقيقي فعل وممارسة وليس تنظيراً وتصنّعاً. اعتقد البدري أن الصلاة وحدها أنقذت شيريهان من مرضها: إذا صحّ هذا، فلماذا لم يُشف أحمد زكي من مرضه (أم إنه لم يذكر الله كفاية)؟ لماذا لم يُنقذ يونس شلبي من آلامه (هل يدري أحدٌ كيف خاطب شلبي ربّه في محنته اليومية منذ سنين عدّة)؟ صحيح أن الموت حقّ على الجميع، وأن قوّة العلم لم تتفوّق بعد على الموت. لكن العلم نجح كثيراً في مقاومة أمراض عدّة والتغلّب عليها، لذا فإن شفاء المرء محتاجٌ دائماً إلى عبقرية الطبّ، لأن الصلاة وحدها لا تنفع، مع أنها وسيلةٌ لروح مؤمنة كي تعبر وجعها بسلام، أو بأقلّ قدر ممكن من الألم. العلم وحده قادرٌ على مكافحة مخاطر صحية جمّة، طالما أن هناك من يمضي جلّ وقته في المختبرات لإعمال عقله في أمور تفيد البشرية وتطوّر سبل عيشها وتخفّف من وطأة آلامها، في مقابل أناس آخرين يجتهدون في ابتكار أدوات القتل ويمعنون فتكاً بالبشرية ويطوّرون وسائل تدميرها، تارة بحجّة السياسة ومصالح الوطن والمواطن! وطوراً باسم الدين.
شُفيت شيريهان من مرضها، وقرّرت العودة إلى التمثيل، فاختارت مشروعاً لعلي بدرخان بعنوان «رعب امرأة». لكن هذا كلّه لم يرق ليوسف البدري، فاستخدم لغة الترهيب المبطّن، مستعيناً بتلك الكلمات التي باتت، في هذا الزمن، تثير نفوراً واشمئزازاً لا خوفاً أو هلعاً: الشيطان، الشرّ. أراد أن يمنع الفنانة من استعادة حضورها الفني والاجتماعي والإنساني وسط الجماعة (وفي الجماعة مؤمنون يحبّون شيريهان والفن، ويعيشون في العصر الحديث)، معتقداً أن نجاتها من المرض والموت يجب ألاّ تمرّ من دون حساب، فطالبها بأن تُسدّد له فاتورة شفائها باسم الله والإيمان والتقوى والبحث عن بيئة «نظيفة» (هل تتذكّرون تعبيراً صحافياً ساذجاً سرى في الصحافة المصرية أعواماً عدّة اسمه «السينما النظيفة»؟) ونبذ المحيطين بها لأنهم أشرار يحرّضونها على الفن حيث الشيطان يقف لها بالمرصاد (ألا يقف الشيطان بالمرصاد لمن يعملون في مهن اخرى؟ أليس الشيطان مقيماً في عالم الحروب والمجاعات والفوضى والقمع والقتل باسم الدين؟). فهو يعتبر نفسه وكيل الله على الأرض، وعليه أن يجمع أكبر عدد ممكن من الناس في «علبة واحدة» مكتوب عليها «مؤمنون» (وإن اضطرّ استخدام العنف الكلامي في خطبه)، كي يتسنّى له الحصول على «أفضل» مكان له في الآخرة. ذلك أن الذهاب إلى الآخرة يمرّ، بالنسبة إليه وإلى أمثاله، بالترهيب والوعيد والتفجير والقتل.
لعلّ عدم المبالاة بما تلفّظ به يوسف البدري (وبما يُطلقه أمثاله من فتاوى وتوجيهات وتعليقات تتحوّل سريعاً إلى ما يشبه إعلان الجهاد ضد فاسقين ومارقين، سواء أكانوا مبدعين أم من عامة الشعب) أفضل ردّ عليه وعليهم جميعهم. غير أن تنامي هذه الظاهرة تحتاج إلى مواجهة حقيقية بدأها مثقفون وفنانون مصريون، ترتكز على المنطق والحقّ الديموقراطي في العيش والتعبير، وتستند إلى حجج أرضية في مواجهة غيبيات ملتبسة، وتعتمد على قوانين وإن شابها وهن يتطلّب شيئاً من العلاج. ثم إن العمل الجدّي على تشذيب الفن من أعمال سطحية وفارغة من أي همّ إبداعي أو هاجس ثقافي أو فكري أو إنساني، ينتمي إلى تلك المواجهة الضرورية، التي تتكامل بإنجاز أعمال ذات إبداع سوي رفيع المستوى، درامياً وجمالياً.
في لحظة كهذه، بل في اللحظات كلّها، يبقى الإبداع الحقيقي المحرّض والسجالي أفضل الأسلحة في مواجهة التخلّف والأمية والتزمّت، وإن استند هذا كلّه إلى الدين، لأن الدين قد يكون براء منه ومن دعاته.

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...