غسان الرفاعي: المثقف- السنديانة
-1- يغزو وطننا العربي غزواً منظماً ثلاثة نماذج من المثقفين الكتاب: كتاب- المرآة, وكتاب الدروج, والكتاب الضفادع. وهذه النماذج, على الرغم من كل ما جرى ويجري في الساحة العربية, تتكاثر دون زرع ولا تلقيح, وتحتشد في الأماكن العامة, من دون دعوة رسمية, إنها تحمل بضاعتها على ظهرها, كتاجر الملبوسات العتيقة, وتعرضها على الأرصفة, وتنادي عليها بأصوات مبحوحة.
الكاتب- المرآة يتبرج ويتغندر, لفظياً, وإيديولوجيا, ويتمايس في المحافل والمجالس, يخشى أن ننزلق عليه ذرة من غبار, رأسماله حفنة من الألفاظ المموسقة. ودزينة من علامات الاستفهام والتعجب, يرشقها كيفما اتفق على الورق لتكون همزات وصل بين الكلمات والتعابير, مثله كمثل خياط النسوان الذي يملأ فمه بالدبابيس, يقطب بها الكم إذا زحل, والخصر اذا انشمر, والتكسيرة إذا انفلشت, إنه ينوس بين اللفظية المترهلة والتفاكر اللقيط, فلا هو قادر على ضب ترهله, ولا هو راغب في إضفاء الشرعية على تفاكره, أحسن انقاذ له أن يمعن في عشقه لوسامته- كما فعل نرجس فقد يسقط في الساقية التي تزوده بكل بضاعته الثقافية.
الكاتب- الدرج, يقتات من سطور الكتب وجزازات الصحف وهوامش الملفات كما يقتات الأرنب من قضبان الجزر, فلا يبقى على هزاله, ولا هو يسمن . عباءته الثقافية مكتظة بالرقم والشقف المتداخلة التي لا تجلب له الدفء ولا تؤمن له تهوية طازجة إنه غضاريف هشة دون هيكل عظمي صلب, ومعاطف وأردية متناثرة تفتش عن مشجب تعلق عليه. ذهنه محشو بالأسماء والاستشهادات دون ترتيب ولا ذوق كغرفة طالب فوضوي تجد فيها فرشاة الأسنان داخل حذاء, وصحن الطعام فوق الفراش, يرتعد من المجاهرة برأي, إذا لم ينسبه إلى الصدر, ومن الأفضل أن يكون أجنبياً براقاً رصيده الثقافي مخزون في دروجه, مفهرساً كيفما اتفق, يستنجد به في المناسبات الباذخة والغثة. يسلك سلوك المترفعين لابما كوّنه من مواقف وآراء, وإنما بما جمعه من جزازات وهوامش, ولا يطمح أن يكون أكثر من أرشيف رث تتكدس فيه المعلومات والمعارف كيفما اتفق, وليس من المستبعد أن تنسج العناكب حوله وحول ثقافته خيوطها, فيستيقظ ذات يوم وإذا به قد أصبح قوتاً لها.
الكاتب- الضفدع مجدف مجاني, لا يملك الا نقّه المتواصل والقدرة على توظيف هذا النق توظيفاً مجزياً, وأنه رافض لكل شيء في تصاعد هندسي إلى أن يصل إلى رفض نفسه, وقابل لكل شيء في تنازل حسابي, إلى أن يصل إلى قبول عبوديته, يخيل إليه أنه في الذرا الشامخة كأبولون, ولكنه ليس أكثر من فن يتمرغ على بلاط سجنه. تغلب عليه الرعونة والجلافة, حتى إذا ما قشر جلده بدا هلامياً لزجاً كسلطة فواكه. له ولع في الشكوى الفظة, يستخدمها لحماية لزوجته وللتسلق الخفي المستتر ثانياً وكما تعوّد أن يأكل على موائد الآخرين دون أن يدفع ثمن طعامه, فكذلك يتثقف من دون أن يدفع ثمن ثقافته. يلصق على جبينه شعاراً يختبئ داخله كالقنفذ, وفي ذهنه أن الشعار يلخص له الأغذية الحضارية كلها في قرص سحري يلتهمه على عجل ويرتاح, وقد يريح.
-2-
أنا من المنادين بإقطاعية الكتابة بالرغم من إيماني الذي لا يتزعزع بالديمقراطية, ولا مجال. في اعتقادي لهدم الأسوار بين كتاب القضية, وكتاب التهريج, ولا مجال لإشاعة المساواة بين من يغمس قلمه في دمه وبين من يغمس قلمه في بحيرة السلطان. ديمقراطية الكتاب لا تعني افتتاح دور حضانة للمتطفلين والطحالب, والإغداق عليهم في انتظار أن يصلب عودهم, ويصبحوا قادرين على صياغة جمل مفيدة تصلح للمناسبات المفيدة وإذا كان لابد من الاحتفاظ بنظام إقطاعي في ميدان الكلمة, للحفاظ على الأصالة والنزاهة, فقد يكون من أول أهداف الوطنية المستنيرة الحفاظ على مثل هذا النظام الإقطاعي.
إن الدفاع عن قضايا الجماهير العادلة ليس جملة مفيدة, في مناسبة مفيدة إنه رؤيا متكاملة, شفافية خارقة, تقنية مؤلمة وموجعة, رهينة فكرية وفنية معاً, تجاوز مبدع, لا استنقاع خمول, جهد مضمن, لا استرخاء كسول, ومن يوقف كلمة للدفاع عن قضايا الجماهير ينبغي أن يكون قاسياً على نفسه, قبل أن يكون قاسياً على الآخرين قادراً على رفض الاغراء قبل أن يكون قادراً على قبول التكريم.
-3-
النموذج الذي نفتقر إليه هو الكاتب- الأرض, الكاتب- الإنسان, إنه السنديانة التي تمد جذورها في باطن الأرض, أرضنا, والقيثارة التي تغني همومنا وأفراحنا, الصدر الذي نتكئ عليه, ونغرز أظافرنا فيه, الطلقة التي تصوب إلى تفاهاتنا وتقاعسنا وصمتنا وعبوديتنا.. إنه الحب العميق, العميق, الذي يحمينا, يورق أغصاننا ويفجر طاقاتنا, إنه حريتنا, وعذاباتنا, وهواجسنا, ومطامحنا.
هذا الكاتب سأركع أمامه, وأقبل يديه وقدميه.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد