غسان الرفاعي: خواطر «جانحة» برسم الإعارة
-1-
يصرّ أحد كبار كتاب هذا العصر «أندريه جيد» على أن «الاكتئاب» ليس حالة شعورية تقتحم الإنسان في فورات اليأس، والقهر، والفشل، وإنما هو «مهنة» لا تليق إلا بالمثقفين، ويبدو أن هذا القول «تشخيص سريري» لا يرفضه كبار المحللين النفسانيين الذين يجمعون على أن «المثقف كائن كئيب» يوجعه ما يجري في العالم، ويحاول أن يعبر عن آلامه وعذاباته، ولكنه لا ينجح إلا في إيذاء نفسه، لأنه يكتشف أن قدرته على الحركة محدودة، فلا عجب إذا تحدث «بول فاليري» عن «هذا التعيس الذي يمتهن التفكير، ولكن لا قدرة له على العمل».
كانت لنا فراديس ساحرة، نحتها لنا متمردون كبار، أقنعتنا أن هذا العالم «الظالم الموبوء بالشرور» لا بد من أن يزول ليحل مكانه عالم العدالة والمساواة والحرية وحينما اكتشفنا، بعد أن قاربنا على الرحيل، أن هذه الفراديس الساحرة هي «فقاقيع فارغة» كما كان يصفها «ديستوفسكي» لم نملك الجرأة على الاعتراف بالهزيمة، وبقينا نحتفظ بشيء من العناد الطفولي، حرصاً على ذبالة من كرامة.
لقد تشرذم فردوس الوحدة الذي كان يمنحنا المتعة والقوة، وإذا بنا نشهد مولد «الأقاليم» المجزأة، المسيجة، التي تغلي بالأحقاد والاحتقان، وتفسخ فردوس الحرية فإذا بأنظمة الاستبداد والاستفراد تحول الإنسان العربي إلى كائن معدوم الإرادة، مسلوب الكرامة، وتلطخ فردوس الاشتراكية، ليفسح المجال أمام طغيان المافيات المالية والعسكرية، وتكاثر مدن المجاعة والانسحاق.
هل يعاني مثقفونا من الاكتئاب؟ الأحداث تتساقط على رؤوسهم فتحرجهم وتؤذيهم، وقد يغامرون بالشكوى، وقد يتجرؤون على النقد، ولكنهم يفضلون الالتزام بالشكوى «المبحوحة» ولا ينزلون من صوامعهم، كسلا، أو مللا، أو خوفاً.
-2-
مريب هو هذا التحرك الثقافي الجديد الذي تتخبط فيه الأجيال الصاعدة، الداعي إلى التخلي عن الالتزام وتبني «الفكر الفاتر» الذي لا يدعي امتلاك الحقيقة، ويسخر من الذين يناضلون في سبيلها.. كان مثقف الخمسينيات والستينيات يفاخر بانتمائه إلى عقيدة راسخة، أو قضية مقدسة، ولكن «المثقف الفاتر» يتحاشى الانحياز، ويفضل أن يتعامل مع الأفكار بـ «رخاوة» دون أن ينزل إلى الشوارع، كما كان يفعل المثقفون الملتزمون، ودون مشاركة في المسيرات والاعتصامات، مكتفياً بالمشاهدة من بعد، و «النقار» مع من يخالفه الرأي «بلباقة ثلجية».
الانسان العربي الذي يقف مقشراً في العراء، بلا كسوة سلطوية، ولا عباءة جماهيرية يتوق إلى الصداقة النزيهة، فهي وحدها القادرة على ضخ شيء من الدفء في شرايينه ونسجه وأليافه لم يعد يتحمل إرهاب «الخوة» ولا انتهاز «الرفاق»، الأولون قد يغتالونه في وضح النهار، والآخرون قد يجعلون منه «ممسحة» يغسلون بها خطاياهم وأوزارهم لقد تعب، وهو بحاجة إلى صدر يرتمي عليه، وقلب يغوص داخله، وفضاء نظيف يتنفس فيه بحرية.
هل ستنتقل عدوى «الفكر الفاتر» إلى مثقفينا، عنوة، أو بملء إرادتهم، بعد أن وضعهم «الفكر الساخن» في خنادق متخاصمة، وحولهم إلى قبائل متنابذة؟ يزعم أحد كهنة هذا الحراك أن الديمقراطية لا يمكن أن تزدهر إلا بتكاثر منابر «الفكر الفاتر» و«ذيوع» الرخاوة في المجابهات، خصوصاً بعد أن سقط الكثير من الشهداء دفاعاً عن السخونة والانتماء؟
-3-
أصدر الفيلسوف الفرنسي «روجيس دوبريه» مرافق الثائر «جيفارا» ومؤلف كتاب « الثورة داخل الثورة» كتيباً صغيراً من /60/ صفحة سماه «المخطط القرمزي» أدان فيه، بغضب وحقد، المجتمع المعاصر الذي يسكنه هاجس «التصابي» ويتنكر فيه للشيوخ الطاعنين في السن.
الكتاب – المنشور الذي استأثر باهتمام النقاد، قارص واخز، شاعري، ساخر، ملتهب، يقال عنه، أنه قنبلة تصيب شظاياها مرتكزات المجتمع المعاصر، أو لعله «خنجر يغوص في أعماقنا جميعاً، نحن مثقفي الطليعة».
لقد أراد «روجيس دوبريه» الذي بقي المثل الأعلى للحركات الشبابية في الستينيات، وتسلح بكتابه «الثورة داخل الثورة» كل المتمردين، وهم يخوضون المعارك خلف المتاريس، أن يعلن عصيانه على المجتمع المعاصر الذي يكره التجاعيد، والعجز، والذبول، والتآكل، ويدعو إلى التصابي «الفيزيولوجي»، والفكري والعاطفي، كما أعلن أنه يرفض أن تتحول الثقافة المعاصرة من ثقافة عمل إلى ثقافة أوقات فراغ، وأن يحتضر عصر التململ، والنزق، على اعتبار أن مجتمع الاستهلاك المعاصر مفتون بالصورة الجمالية الخارجية، وهو لا ينقطع عن دعوة المسنين إلى تبديل «سحنتهم الكريهة» وإلا هددوا بالاختفاء، وهذا معناه- كما يقول دوبريه- حرمان الحضارة من ذاكرتها، ومن إرثها المتراكم.
-4-
غريب أن تأتي الدعوة إلى التشبث بالشيخوخة الكئيبة من ثائر حمل البندقية مع «جيفارا»، لتجديد شباب المجتمعات المتكلسة الآسنة! والأغرب دعوته إلى التوقف عن تقديس النشاط، والتوثب، والاستعداد الدائم للهجوم ومطالبته بحق الإنسان في أن يكون دميماً كـ «سقراط» سريع العطب، متلعثماً، متجرجراً، وأن يمسك بعكاز، وهو يمشي بتثاقل، يكتب في مرارة: «أردت أن أضع المجتمع، وجهاً لوجه أمام نفسه أردت أن أعترف بأن المتروكين، المهجرين نزلاء المستشفيات ودور العجزة هم قشطتنا الثقافية، ولا بد من انتشالهم من الغرق أن المجتمع المعاصر الذي يتنافس فيه الجميع على الوصول إلى القمة، بالاعتماد على ما يسمى بالديناميكية، والحيوية، وروح المبادرة، لا يحق له أن يستبخس شيوخه، بدعوى أنهم أصبحوا عبئاً على التقدم والازدهار.
-5-
ولكن هل المطلوب هو خلق حضارة هرمة تحل محل حضارة ديناميكية شابة؟ لا يجيب «دوبريه» على هذا التساؤل، ويفضل أن يشير إلى أن كل الإعلانات التي تنشرها الصحف، وتظهر على شاشات التلفزيون، وتنتصب في الأماكن العامة، تدعو إلى «التصابي» وإلى تمجيد الصحة، والسرعة، والمردود، في حين أننا بأمس الحاجة إلى الطقوس الثابتة المتوارثة، إلى البطء، بل حتى إلى الموت، إن شعار «افسحوا المجال والطرقات أمام الشباب» معناه «الموت للشيوخ!». وقد يكون من المفيد التذكير بأن تمجيد الشبابية هو من مرتكزات الإيديولوجيات الشمولية النازية والشيوعية، ومن الصعب أن نتناسى تنظيمات القمصان الرمادية، أو السوداء النازية، أو اتحادات الشبيبة التقدمية في الجمهوريات الشعبية الاشتراكية.
يكتب «دوبريه» في كتابه – المنشور: «كنت دوماً من أنصار النضج: احترم كثيراً المسنين الذين تتجاوز أعمارهم الـ 80عاماً. أولاً، لأن لديهم مايتحدثون عنه، وثانياً لأنهم أحرار لايخشون أن يفصحوا عن آرائهم، ولايخضعون للقوالب المطروحة، وفي قناعتي أن الشباب يميلون إلى أن يكونوا نسخاً من نماذج سائدة، وهذا تشويه لانجده عند الشيوخ.
حينما يزهد الإنسان في جمالية الصورة التي قد ترسم عنه، ولايهمه أكان مقبولاً أو مرفوضاً، حسب القوالب المطروحة، فإنه يشعر بحريته، وبقدرته على أن يكون صادقاً مع نفسه ومع الآخرين. والثوار الحقيقيون يرفضون التكيف مع النماذج الشائعة في المجتمع، ولديهم القدرة على العوم في البحار الهائجة، وتجنب الغرق فيها، وهذا يمنحهم حرية لايملكها الآخرون. والملاحظ أن الحركات الانشقاقية في صفوف «من كانوا!» أكثر بكثير من مثيلاتها عند المتأقلمين مع المعاصرة. لقد قام (غيفارا) بثورته، لأنه لم يكن معاصراً بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ لم يكن يتصور أن «السوبر ماركات» ستكون المصير النهائي للإنسانية، ومن المؤكد أن الذين يحنّون إلى الماضي، ويحملون بصماته هم الذين يهزون المجتمعات، وينيرون الطريق أمامها. يقول (دوبريه): «انظروا إلى (لوثر)، إلى (لينين)، إلى (روبسبيير)، إلى (سان جوست) لقد كانوا ينظرون بقداسة إلى الماضي، وهذا ماأنقذهم من الارتباط العنصري بالحاضر الذي كانوا يتعالون عليه. إن المجتمع الذي يتخلى عن السلف هو مجتمع بلا ذاكرة، وهو لهذا السبب بالذات مجتمع مغلق لايملك القدرة على استشراف المستقبل!»
-6-
يخيل إلي أن ماأراد أن يعلنه (روجيس دوبريه) الذي بلغ الخامسة والثمانين، في مرافعته الساخنة ضد «التصابي» هو أنه نادم على حيويته الفطرية يوم كان يحمل البندقية إلى جانب (غيفارا)، وأنه بات مقتنعاً أن الجنون الثوري يوصل إلى التصدع والخراب، ولكن (دوبريه) يحتج بعصبية على هذا الفهم لمقاصده، ويكتب في كتيبه: «لايخطر على بالكم أنني أصبحت معجباً بالحكمة والنضج بعد أن تقدم بي السن، إن ثوريتي مازالت في صحة جيدة، ولولا إيماني بأن الثورة على الظلم هي أهم مافي التاريخ الإنساني، وأن تمردنا الحالي ماهو إلا الاستمرار لتقاليد متوارثة، لما قبلت أن أحمل البندقية، ماذا تقولون بشجاعة (سقراط) وهو يواجه الحكم بالإعدام؟ ماذا تقولون بثورة «سيرتاكوس»، ماذا تقولون بثورة الزنج، ومقاومة المتصوفين الدراويش المسلمين؟ ماذا تقولون بالثورة الفرنسية، و«حكم الكومونة»؟ الثوار الحقيقيون هم الناضجون، المحافظون على القيم الإنسانية الثابتة، وليسوا قطيعاً من المغامرين الذين لايعرفون ماذا يريدون!» وواقع الحال أن الأصوليات الدينية والسياسية المتنازعة قد حقنت «بفياغرا إيديولوجية» تماشياً مع سريان «جنون التصابي»، ولايمكن القضاء عليها إلا بعد نزع المكياج عنها، وإعادتها إلى جذورها الدينية الأصيلة.
-7-
قد يقال بأن ثورة (دوبريه) على «التصابي» ودعوته إلى الانتماء إلى الجذور هي خاصة تنطبق على المجتمعات الغربية فقط، لكن دراسة متمهلة وجريئة تظهر لنا أن عقدة التصابي شائعة في المجتمعات العربية، فيزيولوجياً، بدليل الاقبال الشديد على عمليات التجميل والتنحيف، وإيديولوجياً بعد أن تكاثرت محاولات «ترقيع» الطروحات التراثية وطليها بالمساحيق الحديثة، واجتماعياً بسبب سيادة النفاق، أو التملق، والتفاخر الكاذب، وقد يكون من المفيد أن يجاهر الإنسان العربي، رجلا كان أم امرأة بواقعه دون روتوش، ولامكياج، أن ينزع عن وجهه المملوء بالبثور الأقنعة الواقية والمزركشة!.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
التعليقات
اخترت ممثلي من زمن
إضافة تعليق جديد