غسان الرفاعي: "لاعق الأحذية والاغتصاب"
-1- لفظة «ليش بوت» الفرنسية تعني «لاعق الأحذية» وتطلق على «المنافق» الذي يجيد التزلف إلى المسؤولين وممثلي السلطة, ويتجنب الالتزام بموقف ثابت .
وقد تكون اللفظة العربية «ماسح الجوخ» أو «اللقلوق» هي أنسب لفظتين تعبران عن المعنى ذاته, ويجمع المنظمون الذين ينتمون إلى مختلف الحضارات والثقافات على إدانة «اللقلوق» وتوصيفه بـ الرخيص, الغشاش, صنو الثعبان بتقلبه, وتلويه, وخداعه.
تملكتني الدهشة حينما عرضت علي «ليليان» المحررة في صحيفة /فرانس سوار/ أن أحضر مؤتمر «لاعقي الأحذية» الذي يعقد في ضاحية سان كلو الباريسية تحت شعار: «ونحن لنا حقوق يا أوغاد!» ولم أصدق حينما أعلمتني ليليان أن لاعقي الأحذية سوف يشكلون حزباً سياسياً وسيصدرون صحيفة تنطق باسمهم, وقد ينظمون مظاهرات صاخبة في كل المدن الفرنسية الأسبوع القادم, يشارك فيها عدد كبير من «المتعاطفين معهم».
-2-
ازدانت صالة المؤتمر بالأعلام الفرنسية, وبصور بعض الشخصيات التاريخية التي يصنفها منظمو المؤتمر بين «كبار لاعقي الأحذية» مثل تاليران السياسي المخضرم الذي كان في خدمة العهد الملكي, ثم في خدمة أقطاب الثورة الفرنسية, وخدمة نابليون أيضاً, ومثل شاتوبريان الكاتب الكبير الذي رشح ذات مرة لرئاسة الجمهورية وتقلب في عدة مناصب, وقد عرف بامتداحه ألد أعدائه وقبوله التعاون معهم بيسر, مع عدم قناعته بجدارتهم.
كان أول المتكلمين «بيير بيزار» الأمين العام المؤقت لـ «لاعقي الأحذية» وكان أميناً عاماً لإحدى أهم الوزارات الفرنسية, وقال في مستهل كلمته: «يتهموننا بأننا متخلعون أخلاقياً وسياسياً وأننا عورة في المجتمع الفرنسي, ولكننا ضرورة لا يمكن الاستغناء عنا, ويتعذر أن ينجح أي نظام حاكم من دون الاستعانة بنا, والإصغاء إلى نصائحنا, نعم.. نحن فخورون بالعمل الذي نقوم به, ولا بد من أن نحتل مكاننا في المجتمع, وكفانا إهانةً وازدراء وإهمالاً...
وروى «بيير بيزار» قصة جرت معه حينما كان أميناً عاماً لإحدى الوزارات, قال: «بلغني أن أحد الموظفين الشبان يتغيب كثيراًٍ عن الدوام, ويهمل في أداء ما يطلب منه, ويعقد اجتماعات في قبو الوزارة يستفز بها المسؤولين الكبار في الدولة, وقد قررت بعد دراسة اضبارته أن أسرحه من العمل, ومضت سنوات, وإذ به يصبح وزيراً يمثل الحزب الاشتراكي, وقد بادرت إلى إصدار تعميم طالباً فيه من كل موظفي الوزارة أن يجتمعوا أمام مدخل الوزارة لاستقبال الوزير الجديد «ابن الوزارة البار» كما أطلقت عليه, وحينما أطل الوزير بطلعته البهية ألقيت كلمة حماسية امتدحت فيها الوزير وكفاءته ونظافة يده, وتوقعت أن تصبح وزارتنا أرقى وزارة, بفضل إرشاداته وتوجيهاته, وقد لامني كل موظفي الوزارة على «رخصي ونفاقي» وتساءلوا كيف أجيز لنفسي أن أنافق وألعق حذاء الوزير, وكنت قد سرحته سابقاً بسبب تغيبه وإهماله, واستفزازاته؟ وها أنا أجيب عن تساؤلهم: «لقد أديت خدمة لبلادي, ووضعت كل خبرتي الإدارية تحت تصرف الوزير, ولولا هذه الخبرة لتقوضت الوزارة, بسبب جهل الوزير, وعدم إلمامه بشؤون الوزارة, وختم السيد بيير بيزار خطابه الطويل قائلاً: «إننا الجنود المجهولون, ولولانا لما استمرت الحكومات الفرنسية في أداء مهامها, ولأخفقت في إرضاء الناس, ونحن الآن نطالب بحقنا في أن يعترف بنا الفرنسيون وبفضلنا, كما نطالب بإيقاف ازدرائهم لنا.. إن رجال السياسة هم الفاسدون, المرتشون, الفاشلون, أما نحن: «لاعقي الأحذية» فمساكين متكسبون نساعدهم على الخروج من مآزقهم وورطاتهم, ولا نكافأ على عملنا هذا إلا بنظرات الاحتقار, والاتهامات المرذولة..»
-3-
وتعاقبت على المنبر شخصيات غامضة من إداريين, وموظفين في القطاع الخاص, وكتّاب وفنانين, أظهروا بأساليب متباينة, فضائل «لعق الأحذية» والخدمات الجلية التي يقدمها «لاعقو الأحذية» للمجتمع وللدولة, وللمصلحة العامة وطالبوا بضجيج وغطرسة, بـ «الانصاف» والاعتراف بالجميل, وبحقهم في أن يعاملوا باحترام.
أستاذ جامعي في الفلسفة تحدث عن المراحل الثلاث التي أسهب «هيغل» في شرحها: «هناك السلطة في القمة, والمجتمع المدني في القاعدة, وبين هذين القطبين هناك الإدارة البيوقراطية التي تضم «لاعقي الأحذية» الذين يسيرون الأمور, تارة بالتقرب من الذليل من السلطة في القمة, وتارات بالزلفى الرخيصة للمجتمع المدني, البيوقراطية هي جهاز طفيلي يشبه «ثعبان البوا» الذي يلتهم كل شيء, بجشع مترف ولكنها ضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها بسبب حرفيتها ومعرفتها بأسرار الإدارة, وهتف الأستاذ الجامعي: «إذا كان هيغل يعترف بدورنا فلماذا الإجحاف, وهذا التنكر لأهمية ما نقوم به؟»
واستعرض مثقف متحذلق خصائص البيوقراطي الذي يوصف عادة بأن «أداءه مريض وغير شريف» وأنه يغتصب السلطة بالتدرج, ويقوم بمحاولات شريرية لإزاحتها والتحكم بالقرارات مكانها وركز على ما كان يقوله «تروتسكي» من أن طبقة الإداريين والمنافقين الذين يمتدحون كل ما يصدر عن القيادة, هم أصل البلاء في تشقق أي نظام تقدمي, وتوجه المثقف المتحذلق إلى المشاركين في المؤتمر قائلاً: إذا كنا نحن المسؤولين عن تشقق الأنظمة, فلماذا يستعان بنا, ونطالب بأن تقدم استشاراتنا ونصائحنا؟ المفارقة هي أنهم يستعينون بنا إدارياً وحرفياً ولكنهم يرفضوننا سياسياً وأخلاقياً, وهذه هي النذالة بعينها..»
-4-
قد يكون مؤتمر «لاعقي الأحذية» مزحة مستهجنة, أو فانتازيا مسرحية للتسلية, ولكن العارف لدهاليز السياسة الداخلية الفرنسية لا يستخف بهذا المؤتمر, لما قد يحدثه من ارتجاجات في الحياة السياسية, ولاسيما أن معركة الرئاسة المقبلة قد بدأت, ويتنافس عليها جدياً «فيليبان» الشاعر الرديء و«ساركوزي» المتأمرك المزيف كما تصفهما الصحافة الفرنسية.
إن الطروحات التي تقدم بها منظرو المؤتمر لا تخلو من «إمتاع ومؤانسة» وقد تكون جادة بعض الشيء, إذ لا يخفى على أحد أن «اللقلوق» شخصية نافذة ويطفو على السطح في كل الأنظمة ديمقراطية كانت أم شمولية, ولا ينكر أحد بأنه يلعب بعض الأحيان أدواراً خطيرة قد تضع السلطة التي يعمل لها, في مواقف محرجة, وهو لا يكتفي بأن يقبض ثمن لقلقته نقداً, وإنما قد يطمح إلى أن يكون له دور سياسي فاعل ومؤثر, ومن المؤكد أن الأنظمة المهددة أو المعرضة للضغوط, تستعين بـ «اللقاليق» لتمرير بعض الرسائل إلى الساحة الدولية, أو إلى الساحة الداخلية.
د. غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد