غسان الرفاعي: مشانق وعورات

27-04-2009

غسان الرفاعي: مشانق وعورات

-1- أذهلتني صورة كاريكاتورية كبيرة التهمت غلاف »شارلي ابدو« الطليعية لما تثيره من قسوة وفجاجة. لقد صورت رجلاً نحيلاً جاحظ العينين ومتدلي اللسان وقد التفت حول رقبته حبال المشنقة وعلى قفا بنطاله الممزق جملة مفزعة:»نهاية الطبقة الوسطى« وحينما قرأت الملف الطويل عن »مجزرة الطبقة الوسطى« تولد عندي اليقين بأن المجتمع المعاصر سواء أكان تحت قبضة الرأسمالية المعولمة أم كان تحت قبضة حكم شمولي مطلق لم يعد بحاجة الى الطبقة الوسطى التي كانت لولب التقدم والازدهار في المجتمعات.

اقتنص باحث لايخلو من سوء نية الصورة الكاريكاتورية ليتحدث عن وضع افراد الطبقة الوسطى من موظفين مهمشين وأطباء ومحامين ومهندسين وتجار صغار، الذين يعانون من الضيق الاداري والحصار الاقتصادي ويشدون بطونهم بشيء من الكبرياء ليستمروا في الظهور بشكل لائق ولتجنب الخضوع للإذلال الاجتماعي والمادي بل السياسي معظم الأوقات. ‏

كان أفراد الطبقة الوسطى هم» المدللون« المحظوظون في النظامين الرأسمالي والشمولي المطلق ولكن حين انزلق النظام الرأسمالي الليبرالي الى العولمة وأصبح أسير الشركات الكبيرة المتعددة الجنسية وحينما تحول بيروقراطيو النظام الشمولي الى مافيات اقتصادية واجتماعية »سقطت« الطبقة الوسطى بكل ماتحمله من قيم وحوافز وامتيازات ولم تجد وسيلة للمحافظة على ماء وجهها إلا بالتسول للحصول على شيء من النفوذ ولو بطرق ملتوية لاتتلاءم مع اخلاقيات هذه الطبقة. ‏

يبدو أن مجتمع الطبقة الوسطى امام احتمالين: اما ان يتخلع اجتماعياً وأخلاقياً فيسمح له أن يصعد وأن يخترق بعض الخطوط الحمراء ولكن صعوده مسقوف إذ ان عامل مصعد الصعود يحذر المتسلقين بأنه لايجوز لهم أن يصعدوا إلا طابقين أو ثلاثة لأن الطوابق الأخرى من الطابق الرابع الى العاشر محجوزة للمتنفذين وأصحاب الجاه. أما الاحتمال الثاني فهو أن يتحدروا الى صفوف »البروليتاريا الرثة« وأن تسلب منهم مراتبهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بل الثقافية أيضاً. ‏

المفارقة الكبرى هي ان الصراع الدائر حالياً ليس بين المدينة والريف، وليس بين أهل الخبرة وأهل الثقة، ليس بين المحافظين والمتطورين وإنما هو بين مسؤولين متنفذين راكموا الثروة والسلطة والجاه وبين مواطنين شرفاء واكفاء حريصين على تحقيق الازدهار بالاعتماد على مؤهلاتهم ومبادراتهم. وقد يكون »فرانسوا دولوي« في كتابه »مجزرة النخب« على حق حين يقول: »الطبقة الوسطى التي كانت تضخ المجتمع المعاصر بالخبرة والدسم الثقافي وترسخ الازدهار والاستقرار قد تحولت الى بؤر غاضبة قد تولد الفوضى دون أن تكون قادرة على التحكم بها أو الاستفادة منها....« ‏

-2- ‏

لم يصدق الكثير من المثقفين العرب»الحقائق الموجعة« التي كشف عنها التقرير حول» الأوضاع في العالم العربي« الصادر عن الأمم المتحدة والذي شارك في اعداده عدد كبير من الاختصاصيين العرب والغربيين. وقد أصيب الكثير منهم بالهلع وخيبة الأمل بعد الاطلاع على »حجم « التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العربي الذي تعاني منه المجتمعات العربية المعاصرة. وما زال هذا التقرير وما استتبعه من ملاحق يثير النقاشات الحادة في الصحف ومراكز الأبحاث والجامعات والأندية. على أن الاستطلاع الذي نشر في نهاية الاسبوع المنصرم حول »أوضاع المجتمع العربي في فرنسا« -وقد شارك فيه عدد كبير من الاختصاصيين العرب والغربيين- قد فجر الكثير من »الهموم والأوجاع « والتي نجد لزاما علينا أن نتحدث عنها باقتضاب شديد. لقد كشف الاستطلاع عن ست عورات فاضحة متجذرة في المجتمعات العربية المهاجرة لا يمكن التستر عليها ولو من باب »الكبرياء الوطنية«. ‏

-3- ‏

العورة الأولى هي ثنائية الاستقطاب بين الأصولية على اعتبار انها المخرج الوحيد للضياع 15% وبين الاندغام في اسلوب الحياة الغربية على أنه الخيار الوحيد للإنسان الحديث، 85%، وفي حين يفاخر الأصوليون بأن خيارهم الوحيد هو خيار الشرف والكرامة، يعترف المندغمون بأن خيارهم هو خيار العقلانية والحداثة. ‏

العورة الثانية هي العزوف عن تعلم اللغة العربية، لأنها فيما يزعم لا تفيد في الحياة العلمية والمهنية، ولأنها ليست أكثر من وسيلة لتكريس الأصولية والتخلف وتفضيل اللغة الفرنسية لأنها لغة المعاصرة، والنجاح المهني، وكان اللافت أن الدكتور عادل الجزاوي، مدير معهد دانيليو سكوبي يطالب بأن يمنع الطلاب المهاجرون عن حضور دروس اللغة العربية، حرصاً منه كما يزعم على عدم تشتتهم النفسي، وانحرافهم السلوكي والفكري. ‏

-4- ‏

العورة الثالثة هي الانتصار للإباحية الجنسية ضد التزمت الأخلاقي، والتفاخر بتعدد العلاقات الجنسية قبل الزواج، ومع الفرنسيين خاصة، وقد أظهر الاستفتاء أن 70% من الفتيات اعترفن بأنهن قد فقدن بكارتهن، قبل سن العشرين، وأنهن يتناولن حبوب منع الحمل بانتظام، وأنهن يفضلن إقامة علاقات مع الفرنسيين، لأنهم يحترمون الأنوثة، ويتجنبن الشباب العرب الذين يتفاخرون بفحولتهم بعجرفة، ويمارسون اضطهاد امرأة وإذلالها، وحرمانها من حقها في الحرية باسم الحفاظ على التقاليد وعلى الشرف. ‏

العورة الرابعة، أظهر الاستطلاع أن 65% من المهاجرين يرفضون العودة إلى أوطانهم، ويفضلون البقاء في المغترب، ولو لم يحصلوا على ما كانوا يحلمون به من استقرار، وعمل مناسب. يقول شاب في العشرين من عمره: إنني مهمش، عاطل عن العمل، وأعرف أيضاً أنني غير مرغوب فيّ، وأن المجتمع الفرنسي يتردد في دمجي أو الاعتراف بمؤهلاتي، ولكنني حر، لي أمل في أن ازدهر وأنجح وأستقر، أما هناك فإنني أشعر بالغربة، بالخوف والقهر، نعم سأبقى هنا، وأنا مرتاح الضمير، لأن إنسانيتي محترمة، على الرغم من قوانين الجنسية الجديدة، وكوابح وزارة الداخلية في عهد الرئيس الجديد ساركوزي. ‏

-5- ‏

العورة الخامسة، تفتت روح التضامن الاجتماعي عند جماهير المهاجرين بعد الهزائم والنكسات المتكررة، لتحل مكانها نزعة فردية تنافسية انتهازية، وبعد أن كان الشباب يفكر بالخلاص الجماعي والانتماء إلى قوى سياسية واجتماعية ضاغطة، تشرذم وأخذ يفتش عن الخلاص الفردي داخل دهاليز المجتمع الفرنسي، بالاعتماد على الاحتيال والمراوغة للحصول على العمل أو الربح أو النفوذ، أو الوجاهة. ‏

العورة السادسة، العزوف عن التعليم، وتفشي الانحراف، يقول شاب في الرابعة والعشرين: حصلت على عدة شهادات جامعية، كان علي أن أدفع ثمناً باهظاً للحصول عليها، ولكنني ما زلت بلا عمل، ولعل حصولي على هذه الشهادات هو السبب في بطالتي المزمنة. ويضيف، وهو لا يخفي غصّة: إن الفرنسيين على استعداد لاستخدامنا في الأعمال الهامشية التافهة التي يأنفون منها ويضنون علينا بالوظائف المحترمة، فهذه حكر لهم، ولا يقبلون فيها منافستنا. ‏

وهكذا يهجر الشباب المهاجر المدارس والمعاهد والجامعات، ويفضل الاتجار بالمخدرات، والعمل في السوق السوداء. يقول شاب تظهر عليه آثار النعمة: هذه التجارة القذرة كما يحق لكم أن تسموها تدر علي من 5 إلى 10 آلاف يورو أسبوعياً، وبعض الأحيان يومياً، هل أتركها لأفاخر بالشهادات الجامعية الفائضة عن الحاجة، والتي لا تدر عليّ إلا 1500 يورو في الشهر، هذا إذا تمكنت من الحصول على وظيفة... ‏

-6- ‏

تساءل أحد المعلقين الخبثاء: »هل بوسع المال أن يفتح طريق السلام في الشرق الأوسط، بعد أن فشلت العقائديات والعسكريات واللقاءات السرية والعلنية؟«. ‏

هل قدر على هذا الجزء من العالم أن يبقى مثخناً بالجراح، ملوثاً بالكراهية والأحقاد لأنه ما زال مسكوناً بالتاريخ والعقائد والعصبيات. وقد آن الأوان لكي يتحرر من هذا كله، كيما تعيش شعوبه بأمان وحرية وازدهار؟ المفارقة أن المال، والمال وحده، إذا تدفق، سيكون البلسم والمعجزة. ألم يحن الأوان لكي يسود التسامح والتعاون والعيش المشترك إلا إذا امتلأت الجيوب والبطون، وحينئذ قد ينجح المال، حيث فشلت العقائد واندحر التعصب. ‏

-7- ‏

ولكن خير رد على ما قاله المعلق الخبيث، هو الاستشهاد بما قاله بايرون بعد مغادرته بلاده إلى اليونان: ‏

دياجير إذا بقيت، دياجير إذا رحلت، ‏

في شراييني دم أسود، وأمام عيني ظلام دامس ‏

ولكنه الوطن، التماعة النور وإشراقة الضياء ‏

أمزج دموعي بترابه، وأشرب علقمه ‏

ولست نادماً، ولا أطلب النجاة! ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...