فريدريك نيتشه الفيلسوف الذي أبدع هكذا تكلم زرادشت
إنه صاحب الكتاب الكبير «هكذا تكلم زرادشت» هذا الكتاب الذي لاقى شهرة في العالم، فعندما يعدد الإنسان أسماء الكتب الأساسية والكبرى التي نهل منها ثقافته، فلابد له أن يذكر «هكذا تكلم زرادشت».
لقد نادى نيتشه بضرورة الحرية الفكرية لأي إنسان ومهما كان موقعه، ونادى بأن يحقق هذا الإنسان بطولة في مجال عمله مهما كان نوع عمله، ما يهم أن يحقق الإنسان بطولة قبل أن يختفي من الحياة، وإلا فهو إنسان به نقص.
لقد أدان نيتشه الجبن والهزيمة والاستسلام مهما كانت الدوافع، فإن يقضي المرء بكرامة وبراية خفاقة أفضل له بكثير من أن يعيش بذل وخنوع وهزيمة.
من هنا نادى بان تكون الأجيال البشرية القادمة عبر الزمن أقوى من الأجيال السابقة، فكل جيل عليه أن يكون قوياً ومكتشفاً للحقيقة، ومفكراً بقوة أكثر من سابقه، وذلك حتى يبرر سبب مجيئه إلى الحياة.
يقول نيتشه لهذه الأجيال التي سوف تأتي بعده: «لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصاً في قصده، بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفاً لعقيدته، فإذا اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها، فلا يتردد أن يأخذ بها، إياك أن تقف حائلاً بين فكرتك وبين ما ينافيها».
وينتهي إلى أن يقول: «إن ما فطرنا هو أن ننجب كائناً يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل».
لاشك أنه سوف يواجه من يسيء فهمه سواء من القراء الذين فهموا القوة على أنها تكمن في ممارسة العنف، أو من النقاد الذين حملوه نتيجة أحداث العنف الكبرى التي وقعت في زمنه، وحتى التي سوف تقع بعد نيتشه بسبب هذه الأفكار التي نشرها، وهو يدعو لأن يكون الإنسان سوبر مان، وان يقتل كل شعور بالوهن في ذاته، وحتى يبتر عضواً من أعضائه من شأنه أن يسبب الوهن لبقية الأعضاء.
إن القوة هي مستقبل البشرية، كما هي مستقبل الفرد، ولا تستطيع أن تتحكم بنفسك إلا إذا كنت أقوى من نزعاتك، والقوة هي التي تقود العالم برمته، ومن يمتلك هذه القوة سوف يكون سيداً على نفسه ومن ثم على العالم أجمع.
يدافع نيتشه عن أفكاره في مواجهة سوء الفهم ذاك فيقول: لست غولاً أو وحشاً أخلاقياً، أنا النقيض الجذري لنمط الإنسان الذي بجل كفاضل حتى الآن.
إن الشيء الأخير الذي أعد به هو تحسين البشرية.
يقدم نيتشه نفسه وأسلوب تناوله الإبداع قائلاً: يعرف الذين يستطيعون أن يتنفسوا هواء كتاباتي أنه هواء عاصف ينتمي إلى الذرات، إن الفلسفة كما فهمتها وعشتها حتى الآن تعني العيش بطواعية بين الجليد والجبال المرتفعة بحثاً عن كل ما هو غريب وقابل للاستقصاء في الوجود.
علمتني التجربة الطويلة المكتسبة في مسار تجوالات كهذه في إطار ما هو ممنوع ان أنظر إلى الأسباب التي حثت على العمل الأخلاقي والمثالي في ضوء مختلف جداً عما يبدو مرغوباً.
ينبع كل إنجاز، كل خطوة إلى الأمام في المعرفة من الشجاعة، من القسوة على الذات من النظافة الذاتية.
في هذه الإشارة ستنتصر فلسفتي يوماً ما لأن ما منعه المرء حتى الآن من ناحية المبدأ كان دائماً هو الحقيقة.
يتحدث نيتشه عن كتابه «هكذا تكلم زرادشت» قائلاً: من بين كتاباتي، يقف زرادشت وحده بالنسبة لذهني بهذا منحت البشرية أعظم هدية قدمت لها إلى الآن، ذلك الكتاب بصوته الذي يختصر العصور، لا يمثل ذروة الكتب فحسب، إنه الكتاب الذي يتصف حقيقة بهواء المرتفعات، إن الحقيقة الكلية للإنسان ترقد تحته على مسافة بعيدة جداً، إنه أيضاً الأعمق، ولد من شروق الحقيقة الأكثر عمقاً، ومن بئر لا تنفد، لا ينزل فيها دلو دون أن يخرج ممتلئاً بالذهب والطيبة.. إنها الكلمات الأكثر هدوءاً، التي تولد العاصفة، الأفكار التي تجيء على أقدام الحمام وتقود العالم،.. ثمار التين تسقط من الأشجار، إنها جيدة ولذيذة الطعم، وحين تقع ينكشط جلدها الأحمر.
أنا الريح الشمالية للتين الناضج هكذا كالتين ستسقط إليكم هذه التعاليم يا أصدقائي كلوا الآن لحمها الطيب، واشربوا عصيرها، إنه الخريف.. السماء صافية والوقت بعد الظهر.
كتب نيتشه زرادشته بين عامي 1883 و1885 وكتب الأجزاء الثلاثة الأولى كلها في عشرة أيام، ثم بعد ذلك ظهرت عليه أعراض مرض الزهري الوراثي، وضعف بصره، لكنه لبث يصارع المرض بشجاعة حتى أصيب بالفالج وتوفي سنة 1900 بعد ستة وخمسين سنة على ولادته دون أن يظفر بالمرأة التي يمكن أن يتزوجها قائلاً في ذلك: إنني لم أجد امرأة تصلح أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها.
تبقى أفكار نتيتشه محطة تحول مهمة في مسار الفكر البشري المعاصر، ويبقى من الأشخاص الذين نحتاج العودة إليهم في مختلف مراحل العمر.
تبقى أفكار نتيتشه محطة تحول مهمة في مسار الفكر البشري المعاصر، ويبقى من الأشخاص الذين نحتاج العودة إليهم في مختلف مراحل العمر.
في كتابه المهم (هكذا تكلم زرادشت)- وهو الكتاب الذي يكاد لخص جل فلسفة نيتشه- يرى بان الإنسان عليه أن يسعى لاكتشاف القوة الكامنة في أعماقه، والإنسان يبقى واهناً مادام يبحث عن التفوق العلمي أكثر من بحثه عن اكتشاف مواطن القوة في ذاته، الإنسان كائن ضعيف، ويمكن له أن يتغلب على هذا الضعف إذا نظر إلى هذا الأمر بجدية أكثر، وسعى كل السعي لاكتساب القوة البدنية.
يقول نيتشه في ذلك: إن في العبور إلى الجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطراً، وفي الالتفات إلى الوراء وفي كل تردد، وفي كل توقف خطر في خطر. إن عظمة الإنسان قائمة على انه معبر وليس هدفاً، وما يستحب فيه أنه سبيل وافق غروب. إنني أحب من لا غاية لهم في الحياة إلا الزوال فهم يمرون إلى ما وراء الحياة. أحب من يعيش ليتعلم ومن يتوق إلى المعرفة ليحيا الرجل المتفوق بعده، فإن هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله.
أحب من لا يريد الاتصاف بعديد الفضائل، إذ في الفضيلة الواحدة من الفضائل أكثر مما في فضيلتين، والفضيلة الواحدة حلقة ترتبط فيها الحياة.
أحب من يجود بروحه فلا يطلب جزاء ولا شكورا ولا يسترد، فهو يهب دائماً ولا يفكر في الاستبقاء على ذاته.
أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عمله وعده، إن أمثاله هم التائقون إلى الزوال أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى يصبح دماغه بمثابة أحشاء لقلبه، غير أن قلبه يدفع به إلى الزوال.
أحب جميع من يشبهون القطرات الثقيلة التي تتساقط متتالية من الغيوم السوداء المنتشرة فوق الناس، فهي التي تنبئ بالبرق وتتوارى.
تبقى هذه الأفكار التي طرحها نيتشه ونظر لها أيضاً من الأفكار الوجودية الكبرى التي تقلق الإنسان على مصيره، ولذلك تبقى هذه الأفكار متجددة عبر الزمن، ودوماً يأتي ذاك الشخص المجهول الذي يقدم من الصحراء قائلاً للناس: الحياة في خطر/ هذا الخطر الذي يرى نيتشه بأنه سيظل قائماً مادام الإنسان يرضى بما هو به من ضعف، وهذا لا يعني أنه ضعف بدني فقط، بل هو ضعف أمام سلطة المال، او سلطة الجسد، أو سلطة السلطة.
عبد الباقي يوسف
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد