فيليب جاكوتي في مختارات شعرية شخصية

15-02-2012

فيليب جاكوتي في مختارات شعرية شخصية

لأن الشاعر هو القارئ الأفضل لنصوصه، انكبّ الشاعر السويسري الكبير فيليب جاكوتي خلال العامَين الماضيين على إعداد أنطولوجيته الشخصية (مختارات) التي صدرت حديثاً لدى دار «غاليمار» الباريسية (سلسلة «شعر») وتشكّل خير تمهيدٍ لأعماله الشعرية الكاملة المنتظَر صدورها قريباً في «مكتبة لا بلياد» العريقة. تجمع هذه الأنطولوجيا التي تقع في ٥٦٠ صفحة نصوصاً كتبها الشاعر بين عامَي ١٩٤٦ و٢٠٠٨، وتتراوح بين قصائد وملاحظات من دفاتره ونصوص نثرية، إضافةً إلى كتابات يصعب تصنيفها وتبدو على شكل مونولوغ أو مخاطبة ذاتية.

ومثل رينه شار («حضورٌ مشترَك») وهنري ميشو («فضاء الداخل») وبول إيلوار («أملك وجهاً كي أكون محبوباً») الذين سبقوه في هذه المهمة، يدعونا جاكوتي في هذه الأنطولوجيا إلى نزهةٍ في صميم عمله الشعري من خلال مختارات تغطي كل مراحل إبداعه، لكنها تظهر خصوصاً كاستردادٍ متواصل لسلسلة تساؤلات. فمع أن صوت الشاعر يبدو طبيعياً وبديهياً إلى حدٍّ كبير في كل ما كتبه، غير أنه لم يتوقف عن التشكيك بعملية انبثاق لغته، بسيله الكلامي، بذلك الحبر الذي «لا يحرق الورق ونادراً الأحلام».

وأول هذه التساؤلات هو: ما هي خطورة أن نكتب؟ ولماذا هذا الكمّ من الإثارة والخرافة والعذاب في عملية الكتابة؟ ألا يوجد في الواقع فضاءات أقل عقماً على هامش الكلمات، في قلب الأشياء نفسها؟ في فنّه الذي بالكاد يشبه أي نشاطٍ أدبي، ويتوق إلى الإيقاظ والتحرّك أو التأمّل، يبدو موقف جاكوتي أخلاقياً بالدرجة الأولى. ففي أحد نصوصه يقول: «كنتُ تمنّيتُ أن أتكلم من دون صور، أن أدفع الباب ببساطة». ويقصد الشاعر بهذا القول التعبير عن صعوبةٍ في الإمساك بلغز الكينونة وفي رفع الستار عن أسرار الكون والزمن، بواسطة خدعة الكتابة.

ولتبديد هذه الصعوبة، سعى جاكوتي في شكلٍ ثابت إلى أن يكون مجرّد متنزّهٍ يَقِظ وحُرّ، قادر على الاندهاش، فرحةً أو رعباً، وعلى نقل مقاربته البصيرة، المعتمة أو المنبهِرة، للنور الكامن في كل تحوّلٍ من تحوّلاته. وبدلاً من الشهادة على مشهد الطبيعة، نجده يشهد على طبيعة السرّ ويشارك في تلك الانبهارات الخاطفة التي هي في الواقع إشراقات بسيطة تحت سماءٍ هجرتها الآلهة.

وفعلاً، يعرف هذا الشاعر، بنعمةٍ فريدة ومجتزأة، كيف يتقدّم إلى أقرب مسافة من المكان الذي تبدو الرؤية والحياة فيه مهيّأتين للانصهار، وكيف يبلغ تلك النقطة التي تقع بين عالمَين، حيث الفكر فعلٌ، والشعور ذكاءٌ، والجمال أوكسجين، والشعر حبكة الأيام السرّية. علاوةً على ذلك، إنه صوتٌ فريد يسرّ لنا بأن «ثمّة شيئاً آخر في العالم غير الكوارث»، ثمّة نورٌ يشعّ أمامنا باستمرار ولا يرقى إليه الشك، و «إن كان غير مرئي في زرقة السماء». صوتٌ يعرف كيف يلتقط هذا النور ويحافظ عليه وينقله «كشرارةٍ أو حرارة»؛ صوتٌ يقتلع ذاته من الحبر ويصلنا دائماً من ذلك الباب الخفيّ الذي يقود فقط إلى الخارج، إلى الآخر.

وعلى مرّ السنين، لم تتغيّر نبرة صوت جاكوتي أو ما يقوله لنا، وخلاصته أن الحياة هنا ممكنة شرط «أن يُردّ للنظر غرضه الأسمى»، ويعني الشاعر بالغرض تلك المصادفة بين اللغز والأعجوبة، ذلك المحجوب الذي يلمس أبعد نقطةٍ حميمة ومخفيّة فينا، فيفتح بذلك دروباً مشرقة جديدة لا تؤدّي إلى عالمٍ آخر بل إلى عالمنا المعروف ولكن المتجلّي هنا انطلاقاً مما لا يمكن رؤيته، مما لم نعد قادرين على رؤيته؛ دروبٌ قد لا تواسينا أو تشفينا من مصائبنا ومن مصائب العالم لكنها تحملنا «خطوةً/ ما وراء الدموع الأخيرة».

باختصار، تقودنا أنطولوجيا جاكوتي الشخصية، تارةً في شكل معتم وتارةً في شكلٍ هنيء، إلى ذلك الجانب غير المؤكَّد والرائع الذي يكشف، يمزّق أو يفتح عنوةً ممرّاً إلى الأمام، إلى الأمل. وفي حال أردنا وصـــفها بجملةٍ واحدة لما وجدنا أفضل مما يقوله الشاعر بنفسه فـــي أحد نصوصه النثرية: «أحياناً أفكّر في أن سبب استمراري في الكـــتابة هو، أو يجب أن يكون، قبل أي شيء، جمْع شذراتٍ مضيئة وحاسمة من سعادةٍ نريد أن نعتقد بأنها تفجّرت يوماً، منذ زمنٍ طويل، مثل نجمٍ داخلي، ونشرت غبارها فينا».

أنطوان جوكي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...