قبرص: أكبر عملية «سطو»
صوت أجش يترك ملامح دهشة لدى من سمعه: «اللعنة، إني محبط وخائب»... لم يعرف أحد لماذا قال ذلك الرئيس القبرصي السابق ديمتريس كريستوفياس. زعماء الاتحاد الاوروبي كانوا يخرجون مبتهجين، أواخر العام الماضي، وبعضهم يعلن الخروج من الازمة مع اتفاقهم على انشاء آلية موحدة للرقابة المصرفية. كنا نسأل كريستوفياس عن مستجدات المفاوضات بين بلاده وممثلي «ترويكا» الدائنين الدوليين (الاتحاد الاوروبي والمصرف المركزي الاوروبي وصندوق النقد الدولي). كانت مرت أشهر على حزيران 2012، حينما طلبت بلاده خطة انقاذ لانتشال مصارفها المنهارة. المفاوضات طالت ولم تُعرف بدقة ما هي عقدتها. لم يفهم أحد لماذا كان على رئيس دولة أن يخرج عن كل عرف ديبلوماسي، ويصرخ «اللعنة».
لمعرفة سر «الشتيمة»، كان يجب الانتظار أن تمر الانتخابات القبرصية، وأن يخسر الحزب الشيوعي الغالبية، في شباط الفائت، لصالح الحزب اليميني المحافظ للرئيس الجديد نيكوس ستاسيادس، وأن يحل ليل السبت الماضي... «شتيمة» مستحقة، بشهادة الحكومة الجديدة التي وافقت على اقرار ما يشبه عملية سطو دولية على اموال مواطنيها والمقيمين فيها.
التحضير لعملية «السطو» كان محكما، ولا حتى عصابة محترفة يمكن أن تجد مأخذا. الوقت تجاوز منتصف الليل. كل شيء مغلق. «مجموعة اليورو» لم تكن أنهت اجتماعها المخصص لنقاش خطة انقاذ قبرص. مع الدخول إلى الاجتماع، أوحى الوزراء المؤثرون بأن اقرار الخطة مستبعد. العجز والدين العام للجزيرة الصغيرة كبيران جدا، واقتصادها يعاني.
كانت حركة تضليل موفقة، لكنها لا تقارن بدور الحكومة القبرصية... قبل أيام فقط من الاجتماع، كان مسؤولو الدولة يعبسون ما أمكنهم دلالة على الاصرار، وهم يؤكدون: «لن نقبل أبدا بأن يتحمل المدخرون خسائر لانقاذ المصارف». وزير المالية ميخاليس ساريس، قال إن الدائنين والترويكا صاروا يفهمون أن هذا الخيار «مستبعد» من المفاوضات.
إعلان بدء العملية كان في توقيت مدروس. مع دخول ساعات الفجر، بدون أية مبالغة، أعلنت حكومة قبرص من بروكسل: فرض حالة الطوارئ في المصارف. تم تجميد حسابات جميع المواطنين، مهما كانت مدخراتهم. المقيمون والشركات أتخذ بحقهم الاجراء ذاته.
من أخبر عن ذلك كان رئيس منطقة اليورو، الهولندي يارون دايسلبلوم، تاركا شرح التفاصيل «التقنية» لعضو في المجلس التنفيذي للمصرف المركزي الاوروبي. التجميد حصل لأن المدخرين سيتحملون خسائر من أجل انقاذ المصارف، كجزء من خطة الانقاذ التي أعلن عن الاتفاق عليها، وكشرط لها أيضا.
الخطة بـعشرة مليارات يورو، ولكن ستأتي ستة مليارات أخرى من فرض ضريبة اجبارية على جميع الحسابات المصرفية في قبرص. نسبة الضريبة هي تقريبا بين 7 و10 في المئة. حتى لو كان لدى مواطن قبرصي مبلغ ضئيل عليه أن يدفع، فالضريبة لم توفر أحدا. التمييز الذي حصل فقط ضمن شريحتين: من لديهم فوق 100 الف يورو، ومن لديهم أقل، أيا كان المبلغ. الصحافيون، الذين لم يناموا، كان من الصعب عليهم تصديق ما يسمعونه ردا على أسئلتهم. ما صعب تخيله هو احكام العملية. فالاتفاق لم يهبط من السماء، ولكن ساد تكتم نادر ومستمر على تفاصيله. لم تخرج ولا معلومة على طول التفاوض، طبعا سوى التأكيد أن المدخرين لن يتحملوا خسائر.
ماذا ستفعلون، ألا تخشون أن يهرع الناس لسحب أموالهم؟ سُئل رئيس منطقة اليورو، لكنه أجاب بثقة أن الحكومة القبرصية اتخذت كل الاحتياطات: «لقد اعدوا خطة عمل».
قبل مغادرته إلى بروكسل، كان وزير المال القبرصي قد عمم تجميد أية عمليات تحويل مالية، أذون دفع أو سحب أموال. كل شيء محسوب. بالإضافة إلى التجميد، المصارف مغلقة يوم الاحد والاثنين والثلاثاء، حتى تجبى الضريبة قبل افتتاحها. وقتها سيكون البرلمان القبرصي أقر خطة الانقاذ ومقتضياتها. هذه الحسابات نقلها موظف المصرف المركزي الاوروبي، وليزيد في التطمين أعلن أن مبلغ الضريبة تم تجميده في كل الحسابات.
في صالة قريبة كان وزير مالية قبرص يعلن: «لست سعيداً أن أكون الوزير الذي وافق على هذا». مثل الدائنين الدوليين، قال إن الخيار كان بين قبول ذلك وبين الافلاس. خلال المؤتمر، أطلقوا على الرسوم الاجبارية أجمل الاسماء. مرة قالوا انها «ضريبة استقرار»، ومرة أخرى «ضريبة تضامن». لكن الواقع كان يقول إن الحكومة القبرصية اتخذت اجراءات غير قانونية. جمدت الحسابات وفرضت الخسائر وهي لم تحصل بعد على موافقة البرلمان. في اليوم التالي أفاق القبارصة على قدرهم هذا، وكانت قنوات التلفزة الاوروبية تلاقيهم وهم خارجين من ماكينات سحب الاموال التي لا تعمل. البلد مجمّد، وحساباتهم تعرضت لقرصنة من الحكومة، ولو سمتها عربون مواطنة.
ليست القوانين القبرصية هي التي خرقت فقط. شارون بولز، رئيس اللجنة المالية في البرلمان الاوربي، قال إنه مصدوم. فالبرلمان كان أقر للتو قانونا أوروبيا لضمان الودائع ما دون 100 ألف يورو، كي لا يسافر الناس بحساباتهم تجنبا للمخاطر. بولز لم يراوغ :«لقد دمروا هذا النظام تماما».
الحجة التي يعلنها دائنو قبرص أن نظامها المصرفي متضخم جدا. حوالي خمسة أضعاف دخلها الوطني، ومع فروع بنوكها في الخارج يكون الحجم 7 أضعاف. شكوكهم معلنة حول كون مصارف نيقوسيا جنة لغسيل الأموال، والاصابع تشير لمدخرين من روسيا بشكل أساسي. فرضوا على قبرص لجنة مراقبة خاصة للتحقق من قوانين مكافحة غسيل الاموال وتطبيقها. لكن من دفع الثمن هو الجميع، بمن فيهم أصغر المدخرين. المراقبون تساءلوا ألم تعرف منطقة اليورو مسبقا عن تضخم مصارف قبرص، ثم هل تكون مواجهة غسيل الاموال بتحول الدولة للعمل كعصابة، تجمد وتقتطع من خارج القانون كما لو أنها تقوم بالسطو؟!
وزير مالية قبرص كان يعرف كل شيء، فهو عمل وزيرا للمال لسنوات سابقا، وأدخل بلاده اليورو. عمل في اكبر مصرفين يشكلان الان عنوان أزمة بلاده. لم يكن يحتاج إلى سماع خبير في «مدرسة لندن للاقتصاد»، التي تخرج منها، يقول إن القرار «رهيب». إذا أوضح بول دو غراوا أن المدخرين في اسبانيا وايطاليا رأوا ما حدث، ولا شيء يمنعهم من الخوف على مدخراتهم: «هذا سيسبب أزمة مصرفية، فالناس سيسحبون أموالهم». هو الخوف الذي انتشر مباشرة في منطقة اليورو، فالخسائر فرضت على المدخرين برغم وعود قاطعة. في اسبانيا مصارف تحت اجراءات خطة انقاذ، حجمها 100 مليار يورو، والتوقعات متشائمة في ظل الانكماش الاقتصادي. كذلك في البرتغال واليونان وايرلندا، الدول التي تعرضت للانقاذ، ما الذي سيضمن ألا تفرض مثل حالة طوارئ قبرص؟
لا شيء يدعو للطمأنة في كل ما حصل. سبق لاسبانيا أن مارست نوعَ تضليل أخف، عندما أنكرت أن مصارفها تحتاج إلى الانقاذ. لكن ما حصل في قبرص سابقة، وليس لأنها المرة الاولى التي يتحمل فيها المدخرون خسائر المصارف، بل لأن طريقة فرض الخسارة كانت كاريكاتورية.
سألنا المحلل لورنزو كونزولي عن رأيه، فقال بسخرية: «عندما يصل المواطنون إلى اعتبار أن وضع نقودهم تحت فراش السرير أكثر أمنا من وضعها في بنك، فهذه لحظة بالغة السوء للمصارف ولمنطقة اليورو».
وسيم إبراهيم
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد