جائزة نوبل من يسوسها؟
الجمل ـ عماد عبيد:
لا شك أن للجوائز ذات السمعة الصائتة قدرة تحفيزية حضارية تساهم في التطور والنمو، سيما إن جاءت تقديرا للنبوغ والجدارة والاجتهاد، وتأتي جائزة نوبل كأهم وأعرق جائزة عالمية، سواء من حيث قيمتها المادية أو رفعتها المعنوية، فهل انضبطت هذه الجائزة وانتظمت لقوانين العدالة والنزاهة؟ أم أنها انصاعت لرياح السياسة، تميل معها حيث تميل؟
بين نظرية المؤامرة وارتداداتها الشكّية، وسذاجة البراءة الطافية فوق المياه الضحلة، علينا أن نستهدي بقول (الإمام الشافعي):
لا يكن ظنّكَ إلا سيئاً ... إن سوءَ الظّنِ من حسنِ الفطن
في عام 1988 توفي شقيق (ألفرد نوبل مخترع الديناميت 1833-1896) واسمه (لودفيج نوبل) في فرنسا، فقامت إحدى الصحف الفرنسية بنعي (ألفريد نوبل) بطريق الخطأ تحت عنوان (تاجر الموت ميت) وتدحرج الخبر على صفحات الصحف التي وصفت ثروته بأنها (ثروة القتل)، أصيب (ألفرد) بخيبة أمل وخذلان جراء سماعه الخبر، وارتأى طريقة للتكفير عن ذنبه والتطهر من أدران التهمة، فقرر تأسيس جائزة كمكافئة للذين يخدمون الإنسانية، فتأسست جائزة نوبل بفئاتها الست (السلام – الآداب – الكيمياء – الفيزياء – الطب – الاقتصاد بوقت متأخر عام 1968 ) بعد أن وثقها (ألفرد نوبل) كوصية ووقعها في النادي السويدي النرويجي في باريس عام 1895، حيث كرس 94% من ثروته البالغة قرابة 200 مليون دولار للجائزة، وباشرت منح جوائزها عام 1901.
أولى العثرات التي ارتكبها القائمون على الجائزة عن فئة الآداب حين فوّزوا الشاعر الفرنسي (رينيه سولي برودوم 1839-1907) بالجائزة في أولى دوراتها عام 1901، في حين كانت كل الأنظار تترقب فوز كاتب روسيا العظيم (ليو تولستوي 1828-1910) وقد أثار هذا الاختيار غضب 42 كاتبا وفنانا سويديا قاموا بمظاهرة احتجاجية على هذا الاختيار، فـ (برودوم) مجرد شاعر عادي وغير معروف، ليتبين السبب أن أعضاء اللجنة يحبذون الشعر البرناسي وكان (برودوم) يعزف على هذا الوتر.
في مراجعة استذكارية للأسماء الفائزة بالجائزة لفئة الآداب، سنجد الكثير من الأسماء الجديرة والمستحقة (طاغور - أناتول فرانس- جورج برناردشو- هيرمان هسه – جان بول سارتر – تي أس إليوت – ويليام فوكنر – برتراند راسل – ارنست همنغواي – ألبير كامو – ميخائيل شولوخوف – غونتر غراس - صموئيل بيكيت – بابلو نيرودا – غابريل غارسيا ماركيز وغيرهم) ولا ننسى الروائي (نجيب محفوظ 1911-2006) العربي الوحيد الذي فاز بالجائزة عام 1988.
غير أن الجائزة لم تسلم من اللغط والتنديد لطريقة الترشيح التي تنتهجها لجنتها، وترجيح بعض الأسماء غير الجديرة بها كما يتضح من سيرتهم الأدبية، وأهم مثالين صارخين على الفوز غير الجدير بها، فوز الكاتب التركي (أورخان باموق) والروسي (بوريس باسترناك)
فاز (أورخان ياموق 1952) بالجائزة عام 2006 فأثار هذا الفوز تساؤلات عدة، لماذا يفوز كاتب تركي شاب ومحدود الانتشار؟ وتغفل أسماء أدبية تركية شهيرة مثل ناظم حكمت أو عزيز نيسين أو جمال ثريا؟ غير أن التسريبات أفادت أن (ياموق) من المعاديين للنزعة الأتاتوركية، وسبق له أن سجن في تركيا لتشهيره بقديس تركيا (كمال أتاتورك) ناهيكم عن ترويجه لليبرالية الغربية وسياساتها.
أما المثل الصارخ الأبرز على تسيس الجائزة هو الفوز المفاجئ للكاتب الروسي (بوريس باسترناك 1890-1960) بالجائزة عام 1958صاحب الرواية الوحيدة (دكتور جيفاغو)، صحيح أن الرواية مائزة بشهادة أهل الأدب ولاقت هتافا ترويجيا خاصة في الغرب، إلا أن اختيار باسترناك للجائزة أثار استهجان المهتمين سيما أنه ليس لديه أثر أدبي سوى هذه الرواية وبعض المجموعات الشعرية، وقتها رفض (باسترناك) الجائزة بضغط من السلطات السوفيتية، وعلل سبب رفضه بأن هناك من هو أجدر منه بها.
نعم فأدباء روسيا العظام كثر، (تولستوي - تشيخوف - غوركي - ماياكوفسكي - شولوخوف (فاز بها فيما بعد) - حمزاتوف - فلاديمير نابكوف)، فلماذا يتم اختيار كاتب له رواية يتيمة لم تنشر إلا قبل عام من ترشيحه للجائزة.
من الأفكار التي اشتغلت عليها رواية (دكتور جيفاغو) فضح الحقبة السوفياتية وتعرية فكرة الاشتراكية ومناهضتها، وقتها رُجح هذا السبب إلى أن صدر كتاب بعنوان (دكتور جيفاكو بين السي أي أي والكي جي بي) لمؤلفه الروسي (إيفان تولستوي) – لا علاقة له بكاتب روسيا الكبير ليو تولستوي- تم الإصدار بعد انهيار المنظومة الاشتراكية.
من الأسرار التي يفضحها الكتاب أن (باسترناك) كتب روايته واحتفظ بها سرا وانتظر لما بعد وفاة (جوزيف ستالين 1878 - 1953) كي ينشرها، فحاول طبعها في الاتحاد السوفييتي عبر مجلة (نوفي مير) إلا أن المجلة ماطلت بالأمر ثم رفضت النشر، مما دعا (باسترناك) إلى أن يرسلها بشكل سري إلى إيطاليا، وهناك نُشرت بالروسية بتمويل من منظمة مدعومة من وكالة المخابرات الأمريكية (السي أي أي) تسمى (منظمة حرية الثقافة) - وقد تم فضح أعمال هذه المنظمة لاحقا بكتاب للصحفية البريطانية (ف – س – سوندرز) يحمل اسم (من يدفع أجر الزمار) - وعلى الفور قامت هذه المنظمة بترجمة الرواية إلى أكثر من 40 لغة عالمية، وقامت أيضا بتوزيع آلاف النسخ من الرواية مجانا في معرض بروكسل عام 1958 دون مبرر سوى إشهار الرواية، وبدأ بالتحضير لترشيح (باسترناك) لجائزة نوبل بتوجيه (السي أي أي) بعد أن ضغطت على السير(داغ همرشولد 1905- 1961) الأمين العام السابق للأمم المتحدة وأحد أعضاء لجنة جائزة نوبل، ليفوز بها (باسترناك) عام 1958 علما أن منافسه كان الكاتب الإيطالي الشهير (ألبرتو مورافيا 1907- 1990) والذي كان يتفوق على (باسترناك) نتاجا وشهرة.
لا ننسى أن نذكر أن (باسترناك) يهودي الديانة.
جائزة نوبل التي سال لها لعاب أدباء العالم الكبار، استخف بها آخرون، فحين فاز بها الكاتب الإيرلندي الشهير (جورج برنارد شو 1856- 1950) عام 1925 رفضها ساخرا بقوله (أغفر لنوبل اختراعه للبارود، لكن لا أغفر له منح جائزة باسمه).
ورفضها أيضا الكاتب الفرنسي (جان بول سارتر1905-1980) عام 1964معتبرا أنها رشوة للأدب.
نعود إلى التساؤل عن سر انتقاء أسماء بعينها: لماذا نجيب محفوظ الفائز العربي الوحيد بالجائزة أدبيا؟ علما أن الأدب العربي لديه كتاب قد يزيدون شهرة وعطاء عن محفوظ، كطه حسين - أحمد شوقي - عباس محمود العقاد - جبران خليل جبران - ميخائيل نعيمة – محمد كرد علي، ولاحقا أدونيس - محمود درويش - ادوارد سعيد - نزار قباني - إبراهيم الكوني، ولماذا اعتمدت هيئة الجائزة على روايته (أولاد حارتنا) المنشورة عام 1959، وانتظرت قرابة 30 عاما بعدها لتهديه الجائزة؟ هناك من يرجح أن السبب يعود إلى دعم محفوظ لنهج السادات في مسيرة السلام مع إسرائيل وموقفه من التطبيع، طبعا هذا لا ينال من سمعة محفوظ بوصفه شيخ الروائيين العرب وقامة عملاقة وإليه تنسب استقامة الرواية العربية، فضلا عن نتاجه الثر الخالد.
إن التأكيد على فكرة تسيس الجائزة يجعلنا نتطرق إلى فئاتها الأخرى، فالعرب بملايينهم التي تجاوزت 400 مليون نسمة لم يحصلوا إلا على 10 جوائز عبر تاريخهم، أربعة منهم يحملون جنسيات أخرى (بيتر مدور بريطاني من أصل لبناني – الياس خوري أمريكي من أصل لبناني – أحمد زويل أمريكي من أصل مصري – عبد الرزاق قرنح بريطاني من أصل يمني) واثنان أبطال سلام (أنور السادات وياسر عرفات)، بينما فاز الإسرائيليون ذو الأربع ملايين نسمة بـ 10 جوائز أيضا، أما اليهود الفائزين بالجائزة فعددهم مذهل وقد يصدم الكثيرين.. فقط 148 شخص من أصل حوالي 850 شخص ومنظمة فازوا بها منذ تاريخ تأسيسهاـ أي أن النسبة العامة تقارب 20% لليهود من مجمل جوائز نوبل – ومهما كانت جدارة إسرائيل وتقدمها بالعلوم والآداب وجدارة اليهود بعددهم الضئيل عالميا (25 مليون) فإن هذا الفرق الشاسع يدعو للاستهجان والاستغراب، سيما إن عرفنا أن من فاز بها من العرب غير المتجنسين بجنسيات أخرى يعود لأسباب سياسية تقدرها الجهة المانحة وفقا لأهوائها، كالسادات الذي فاز بها بالاشتراك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي (مناحيم بيغن)، و ياسر عرفات مع (اسحق رابين وشمعون بيرس) رئيس وزراء إسرائيل ووزير خارجيتها، و(محمد البرادعي) رئيس وكالة الطاقة الذرية الحريص على مراقبة برامج الطاقة لدى العرب قبل غيرهم، و(توكل كرمان) اليمنية الناشطة في مجال حقوق الانسان.
من الأسئلة المحيرة التي يتداولها المشككون بالجائزة، كيف تفوز بالجائزة اليمنية (توكل كرمان) أو الإيرانية (شيرين عبادي) استنادا إلى نضالهم الخجول قياسا بالأمريكية السوداء (إنجيلا ديفس) المنتصرة لحقوق السود والمناوئة للسياسة العنصرية الأمريكية، أو الأمريكية (راشيل كوري) المدافعة عن حقوق الفلسطينيين والميتة دهسا بجرافة إسرائيلية.
من الملفت للنظر أنه سبق أن فاز بالجائزة السياسي الفيتنامي (لي ديك ثو) عام 1973مناصفة مع وزير الخارجية الأمريكي (هنري كيسنجر) غير أن الفيتنامي رفضها قائلا (لا تشرفني جائزة أتقاسمها مع قاتل).
ترى هل كان السادات يجرؤ على رفض جائزة اقتسمها مع زعيم عصابات الأراغون (مناحيم بيغن).
أو أن ياسر عرفات يستطيع أن يعارض قبول جائزة مع صاحب سياسة تكسير العظام للفلسطينيين (اسحق رابين)
لا بد من التنويه أن الجائزة لم تمنح إلا لعدد محدود جدا من الكتاب اليساريين أو المناوئين لرسملة العالم، وكان فوزهم بمثابة نفي للتهمة وليس لنزاهة الجدارة، منهم (بابلو نيرودا – ميخائيل شولوخوف – جوزيه ساراماغو - غابريل غارسيا ماركيز – نادين غوردمير -الصيني مو يان ) في حين أعلن العديد من الكتاب صراحة أن الجائزة تخضع لاعتبارات سياسية أولا وأخيرا، كـالروسي ليو تولستوي – والبرازيلي جورجي أمادو والإيطالي ألبرتو مورافيا، أما الروائية التشيلية إيزابيل ألليندي فقد صرحت علانية: لا تنخدعوا بالأمل، أنا لن أفوز بالجائزة لاعتبارات تعرفها لجنة نوبل أكثر مني.
لو فتحنا خزائن غرف النوم للجوائز العالمية والمحلية لفاحت منها روائح تزكم الأنوف من فرط اكتظاظها بالفضائح والأسرار المدهشة.
إضافة تعليق جديد