(كورني بطلاً لفلم هندي) بؤس المشهد المسرحي السوري
كثرت المؤلفات والكتب المحاضرات في الحديث عن التراجع الثقافي الذي تعيشه سورية، وغالباً ما كان هذا التراجع يُعزى إلى ثقافة الاستهلاك والعولمة وانتشار الفضائيات الواسع والسينما التجارية التي باتت متاحة من خلال أقراص DVD ، لكن ماذا عن دور الدولة في دعم الفن والثقافة، وبشكل خاص الشباب في مجتمع فتي كالمجتمع السوري، وتحديداً أصحاب المواهب الذين يتوقون إلى بناء مشروعهم الجديد المتمايز شكلاً ومضموناً عن الجيل السابق، والمعبر عن همومهم ورؤاهم في الحياة.
ما دفعني إلى كتابة هذا المقال مسرحية عرضت مؤخراً على مسرح دار الكتب الوطنية في مدينة حلب، وعنوانها \" السيد \" ، عن نص لبيير كورني اقتبسه السيد وزير الثقافة رياض عصمت، وأخرجه وانيس باندك الذي يعتبره البعض نجماً من نجوم الإخراج المسرحي في مدينة حلب.
لم يكد العرض يبدأ حتى أتحفنا المخرج بتقنية الإبهار البصري التي ظهرت في أسلوب الإضاءة، التي أُتخِمنا بها في الدراما السورية عبر ما سُمِّي بالفانتازيا التاريخية، كمّل الإبهار البصري طغيان موسيقى تشبه المارشات العسكرية مستوحاة أيضاً من أجواء هذه الفانتازيا، وفي المحصلة تضافرتْ الموسيقى والإضاءة في صرف عقل المشاهد عن مضمون النص، وتحفيز مشاعره الغريزية.
موجز النص كما قدِّم على الخشبة، قصة حبٍ عاصف بين دون رودريغ وشيميه ، ولكن لسوء طالع هذين العاشقين، أهان والد شيميه ( الكونت) والد رودريغ، فاضطر رودريغ إلى مبارزة الكونت لرد شرف أبيه، وكان أن قتله.
وأمام هذه الحادثة الأليمة، تقع شيميه فريسةً لصراع طويل بين نداء الواجب وحرارة الحب، ولكنه لم يكن صراعاً فلسفياً مجسداً في مسرحية تنبض بالحياة، بل صراعاً مجانياً على طريقة الأفلام الهندية. تطلب شيميه من الملك أن ينزل القصاص بحبيبها رودريغ لأنه قتل أباها الكونت، لكن الملك يرى بأن رودريغ غير مذنب لأنه دافع عن شرف أبيه، ثم يصبح رودريغ بطلاً قومياً ( على حد تعبير إحدى شخصيات المسرحية) يجلب الانتصارات إلى المملكة، وفي النهاية تدعو شيميه الجميلة شباب المملكة إلى مبارزة رودريغ وتعدهم بهدية ثمينة، وهي الزواج منها، لكن رودريغ ينتصر، ويأمر الملك شيميه بالزواج منه بعد أن تقرّ أخيراً بحبها لرودريغ، وهكذا تنتهي المسرحية نهاية سعيدة.
تمضي أحداث العمل بمفارقات ومقالب تشبه السينما الهندية، ويشارك الملك نفسه في مقلبين متشابهين، حين يدعي مع مستشاريه أن رودريغ قد قتل، فيغمى على شيميه التي يفترض أنها تكرهه وتود القصاص منه، والهدف أن يدفعها الملك إلى الاعتراف بحبها لرودريغ، ولحسن الحظ لم تكتشف شيميه أن رودريغ شقيقها في نهاية المسرحية كما توقع البعض من المتفرجين سيراً على الأسلوب البوليودي .
وباعتبار الحوار كان يدور باللغة العربية الفصحى التي دوماً ما نتحدث عن أهميتها، فلا بد لي من الحديث عن مشكلتين أساسيتين:
1 – اختلفت قدرات الممثلين في أداء اللغة العربية الفصحى لكن الممثلة التي أدت دور شيميه كانت الأفضل.
كثيراً ما كانت نهايات الكلمات أو نهايات الجمل تختفي ويخفت فيها صوت الممثل، وتصبح غير مفهومة وأشبه بالغمغمة رغم أن حناجر الممثلين أجادت في قوتها .
2 – أما عن استخدام النبرة الصوتية في تأدية المعنى intonation ، فللأسف طغتْ النبرة الصوتية للهجة مدينة حلب على الفصحى لدى معظم الممثلين، كمّلتها تعابير الوجه facial expression وحركات اليدين، ولفت نظري الملك الذي بدا لي زعيماً من زعماء حارات حلب القديمة مع تقديرنا لمدينتنا الجميلة وتراثها.. حتى الضحكات جاءت مفتعلة وغالباً أقرب إلى القهقهة ، وكأن المطلوب فَصْحنة الضحكة، وكأن الضحك لا يكون فصيحاً إلا بالقهقهة، ومن حيث مضمون الحوار ظهر الحشو والإطالة بطريقة أخلّت بالمضمون الفني.
ولفت نظري ضعف الحركة التي هي ركن أساسي في الأداء المسرحي، وتوظيفها غير الدقيق، والذي لم يخدم الفكرة ويدعم الحوار، إنما جاءت فقيرة رتيبة جامدة.
وأثناء الحوارات الزوجية كان المشهد يأتي جامداً، وتغيير وضعيات الممثلين يتم بأسلوب القفز السريع وتبادل الأماكن، الأمر الذي لم أفهم ما المغزى منه!!. مع وجود مشهدي مبارزة مجانيين تعالت فيها صرخات الممثلين وصهيل الخيول.
ولعل أشدّ ما أثار تساؤلي هي المشاهد التي ظهرت فيها النسوة وحدهن، فكان المخرج يتعمّد إظهار الأنوثة الطاغية، فدوماً حين تتحدث فتاتان كنّ يحملن المرايا في أيديهن، ولا ينظرن إلى بعضهن بل يتأملن المرآة، أو تروِّح إحداهن عن الأخرى بمداعبة شعرها، ذكّرني هذا بصورة المرأة العربية في الآداب الغربية التي كنا ننقدها باسم الاستشراق، لكنني لن أدعو ما شاهدت باسم الاستغراب أو الاستشراق المعكوس كي لا أحمّل العمل حمولة ثقافية لا يحتملها، بل سأسميه استسهالاً وإهمالاً وقلة احترام لعقل المتفرج.
ولأن المسرحية تجري في العصور الوسطى الأوربية كما يوحي المناخ العام للمسرحية، فمن حقنا أن نتساءل عن مدى ملاءمة الملابس والإكسسوارات وحتى الإيماءات والإشارات الجسدية لذاك العصر.
جاءت ملابس الذكور مقبولةَ عموماً، لكن المشكلة ظهرت في الإناث؛ في تسريحات الشعر الحديثة، وفي الأحذية ذات الكعب، وتضمنت الإيماءات والإشارات الجسدية الكثير ممّا لا يمت لعصر المسرحية بصلة، ولكن بلغ السيل الذبى حين أشار الملك بإبهامه إشارة OK المأخوذة من حياتنا اليومية للدلالة على الموافقة والتقدير؟! ....
أما الجمهور الذي يكمل بتذوّقه العرض المسرحي، فظهر منقسماً على طريقة الولاءات الحزبية؛ قسم يسخر من المسرحية، وقسم يصفق بانتظام دون كلل أو ملل ودون سبب؛ ساعده على ذلك القصر الزمني لمشاهد المسرحية، فكلما انتهى مشهد أخذوا يصفقون في محاولة لجرّ باقي المتفرجين إلى التصفيق.
خلاصة الكلام، إذا كان المخرج قد خطّ الشيب شعره، وذو خبرة، ويعتبره البعض نجماً في الإخراج، قدّم عملاً على هذه الدرجة من الإسفاف تحت رعاية المسرح القومي ووزارة الثقافة، فكيف نحيي جسد الثقافة الميت؟
أتذكر جيداً حين كنت طالباً في المرحلة الجامعية الأولى في جامعة حلب، الشباب الطموحين الذين كانوا يحاولون الحصول على مدرج جامعي للتدريب على مسرحيات يودون تقديمها، وكيف كان مسؤولو اتحاد الطلبة يبذلون جهدهم لمنعهم، وفي حال نجح الطلبة بتدبير أمرهم خارج الجامعة كانوا أيضاً يضنّون عليهم بمدرج الباسل لتقديم عرضهم ليوم واحد، لا بل تحول مدرج الباسل على أيدي مسؤولي اتحاد الطلبة إلى صالة لعرض مباريات كرة القدم، وأذكر كيف أوقف في العام الماضي عرض مسرحي لمجموعة من الشباب لعرض مباراة في كرة القدم لأن جمهور مباريات القدم يود أخذ أماكنه قبل بدء المباراة بنصف ساعة. بالمقابل دوماً ما قدم مسؤولو الاتحاد الدعم للمسرح الرخيص وأمّنوا لمهرجيه المدرجات للتدريب في مختلف الكليات، وأصبح المسرح الجامعي في مدينة حلب مختزلاً في مسرح تهريجي على طريقة همام حوت، وهناك أسماء باتت معروفة في هذا المجال تحصل على شتى أنواع الدعم من اتحاد الطلبة.
أما وزارة الثقافة فهي أبعد ما تكون عن الاهتمام بالمواهب الشابة ( والحديث عن مدينة حلب)، وعلى من يريد الحصول على دعمها أن يبني مجموعة من العلاقات الشخصية مع مسؤولي الوزارة، وأن يرضي بعضاً من الفنانين الذين أصبحوا أوصياء على المسرح في مدينة حلب، ولن أتحدث عن مشكلة عانت منها سورية ولازالت لأن الحديث فيها فَقَدَ عُمْق المعنى لشدة التكرار، وهي ربط الدعم الفني بالولاء السياسي، ولن أقول انتماء لأن من يملك انتماءً سياسياً لا يرضى بهذا الأسلوب، وكأن الفن بحاجة إلى ولاء حزبي كي يقدم رسالته ويؤدي دوره في المجتمع.
أخيراً لا بد من سؤال أطرحه برسم المعنيين :
إلى متى ستسخفون بعقولنا وإلى متى ستستمرون في تشويه الفن في سورية التي كانت منبراً من منابر المسرح في الوطن العربي؟ تشهد على هذا الكلام أسماء مثل: سعد الله ونوس، مصطفى الحلاج، ممدوح عدوان، وليد إخلاصي، محمد الماغوط، فواز الساجر وغيرهم...
إلى متى سيتحكم بمصائرنا اناس فاسدون فنياً و....؟ إلى متى سيبقى المسؤولون عن المسرح ديناصورات تريد فرض مزاجها علينا وفقرها الثقافي والأكاديمي مع احترامنا لبعض الشرفاء؟.... هل المطلوب دفعنا إلى الهجرة أم صرفنا إلى مهن أخرى لتحصيل رزقنا، والإجهاز على الفن والثقافة؟!....,
مشكلتنا أننا محكومون بالأمل ومحكومون بحب سورية .
*عمار عكاش- ماستر في علم الاجتماع الثقافي
بريد الجمل
إضافة تعليق جديد