كيف يجب أن نكتب ونقاتل؟

02-06-2014

كيف يجب أن نكتب ونقاتل؟

 الجمل- آندريه فلتشيك- ترجمة: د. مالك سلمان:

 لماذا تتمتع شوارع نيويورك وواشنطن العاصمة ولندن وباريس بكل هذا التناسق والهدوء؟

هل نحن مقصرون في عملنا – نحن الصحفيين الاستقصائيين المعارضين، والفلاسفة، وصناعَ الأفلام الوثائقية؟ هل نحن مقصرون في تقديم المعلومات والبراهين الكافية حول الوضع الوحشي المسيطر على العالم للشعوب الأمريكية والأوروبية؟ براهين كافية تمكنهم – وهم مواطنو الإمبراطورية – أخيراً من الانزعاج، والنهوض عن كراسيهم وصوفاتهم المريحة، وإغراق العواصم والمراكز التجارية بأجسادهم، مطالبين بالتغيير، مطالبين بوقف الجرائم الوحشية التي ترتكب في كافة أرجاء العالم ... ووضع حد لهذا الجنون الإمبريالي الذي يستعر به المحافظون الجدد؟

هل فشلنا، بشكل كامل، في تقديم الأمثلة والبراهين عن الألم الذي يعانيه هذا العالم نتيجة وحشية أصولية السوق، نتيجة الكولونيالية الجديدة السائدة والإحساس المخزي بالتفوق الغربي؟ هل فشلنا في تقديم القصص والصور اللازمة لإقناع مواطني البلدان التي تحكم العالم بأن شيئاً فضيعاً قد حدث؟

الجواب هو نعم، و لا.

نعم – نحن نعمل بكل جد وصدق؛ نعمل بشكل جيد ... نقاتل جيداً، صباح مساء، 25 ساعة في اليوم على مدار أسبوع من 8 أيام، متناسينَ الإرهاق، والحياة الشخصية، وحتى صحتنا والأخطار المحدقة بنا.

إلى جانب العقل والنزاهة، إلى جانب المقاومة ضد الإمبراطورية القمعية المجرمة، تقف أذكى عقول هذا العالم.

هناك فلاسفة ومفكرون عظام من أمثال إدواردو غاليانو، و آلان باديو، و ناؤومي كلاين، و أرونداتي روي، و ناؤوم تشومسكي، يعملون على تعريف ونقد المفاهيم الأساسية التي تحكم هذا العالم.

هناك محامون دوليون شجعان مثل كريستوفر بلاك، وعلماء اقتصاد مشهورون من بينهم المرشح لجائزة نوبل جوزيف ستيغليتز.

يشكل معظم الكتاب العظام جزأ من هذه المقاومة بمن فيهم أولئك – الكتاب الأعظم – الذين غادرونا مؤخراً: خوسيه ساراماغو، و غابرييل غارسيا ماركيز، و هارولد بينتر.

وهناك، بالطبع، الصحفيون الاستقصائيون، في جميع القارات، أولئك الذين يجازفون بحياتهم، بلا أي دعم مؤسساتي في أغلب الأحيان، ويعملون في ظروف غاية في القسوة والخطورة.

* * *

إذاً نعم – نقدم الكثير من المعلومات، والكثير من الصور، والكثير من البراهين التي تشير إلى أن العالم يحترق، وأن عشرات الملايين يموتون، وأن الديمقراطية تتعرض للاغتصاب في كل مكان، وأن الموارد الطبيعية للبلدان الفقيرة تتعرض للنهب لكي تزدهرَ الراسمالية الغربية.

لكن لا – لم نتمكن من تحسين العالم. فقد فشلت كل تلك الجهود الخارقة في إشعال حتى تلك الملايين القليلة من المواطنين المتعلمين والمهتمين في الغرب، ودفعهم إلى تنظيم أنفسهم وإعلان التمرد، والمطالبة بإنهاء هذه المذبحة الإمبريالية الكونية.

كافة المعلومات المذكورة أعلاه، حول فظائع الإمبريالية وأصولية السوق، متوفرة بسهولة على الإنترنت – "على بُعد فقسة واحدة" ، إذا أردنا أن نستخدم اللغة التجارية.

لكن لا شيء يحدث. فمعظم الأوروبيين والأمريكيين يبدون غير مكترثين أبداً لوضع العالم. إنهم مستمرون في ملء بطونهم بالطعام الرخيص. إنهم يتسلون بآخر الاختراعات التافهة (بما في ذلك الهواتف الذكية المشبَعة ب "الكولتان" المجلوب من جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث مات عشرات الملايين منذ سنة 1995). وهم مستمرون في التصويت لتلك الحكومات اليمينية ويؤمنون، بشكل متزايد وأعمى، أن مجتمعاتهم تشكل إلهاماً لبقية العالم بصفتها الأمثلة الوحيدة على الديمقراطية والحرية.

إن مواطني "الإمبراطورية الغربية" كسالى ومغفلون، فحتى عندما تُسرَق المليارات منهم (وليس فقط من شعوب مستعمراتهم)، وعندما يتم إنقاذ البنوك بعد عربداتها الفظيعة، أو بعد تمويل ما يسمى بالانتخابات واستغلالها من قبل المافيا التجارية، فإنهم لا يفعلون أي شيء؛ أي شيء على الإطلاق!

اذهب إلى بار في المملكة المتحدة أو ألمانيا، وستجد أن "الجميع يعرفون كل شيء". سوف تسمعهم يرددون باستمرار: "السياسيون خنازير"، و "الشركات تسيطر على الانتخابات". وإذا بقيت فترة أطول، ربما يقوم أحدهم – بعد عدة كؤوس من البيرة – بضرب الطاولة بقبضته: "نحن بحاجة إلى الثورة!" ثم يوافق الجميع ويذهب كلٌ إلى بيته ... وفي الصباح التالي – لا شيء.

تقوم الشرطة بمضايقة نشطاء "احتلوا وول ستريت" ... ولا شيء. الجميع يذهبون إلى بيوتهم. ويصرخون على التلفزيون.

* * *

هل لا يزال هناك شيء يمكن أن يغضبَ الناس إلى درجة "ألا يعودوا إلى بيوتهم"؟ أن يبقوا في تلك الشوارع القحبة، ويبنوا المتاريس ويقاتلوا، كما فعلوا في الماضي، حتى كما فعلوا مؤخراً في سنة 1968؟

كم من الملايين يجب أن يموتوا في المستعمرات الغربية قبل أن ينتبه الناس في أوروبا وأمريكا الشمالية، ويدركوا حجم المجازر، ويعترفون أنهم مواطنون في إمبراطورية فاشية، وأن عليهم واجباً أخلاقياً لمحاربتها وتدميرها؟ هل 10 مليون في جمهورية الكونغو الديمقراطية تكفي؟ ألا يكفي انقلاب بعد آخر يديره الغرب لكي يفتح الناسُ أعينهم؟

* * *

كما أشار الرئيس أوباما، بصدق، في 28 أيار/مايو 2014، في قاعدة "ويستبوينت"، نيويورك:

"في مصر، نعترف أن صداقتنا مبنية على المصالح الأمنية – من معاهدة السلام مع إسرائيل، إلى الجهود المشتركة في محاربة التطرف العنيف. ولهذا لم نوقف تعاوننا مع الحكومة الجديدة."

أو، ولنضع ذلك في سياقه الصحيح، لنقتبس من "الإيكونوميست" (24 أيار/مايو 2014):

"بعد إلحاح أحد المراسلين الغاضبين على السيد السيسي للتصريح بمدى التآمر الأمريكي لدعم الإخوان المسلمين، وهي نظرية نغمَ عليها الإعلام المصري الذي يعاني من رهاب الأجانب بعد الانقلاب، اعترف السيسي أن التدخل الوحيد الذي يتذكره هو عندما طلب السفير الأمريكي تأخيرَ الانقلاب الذي حصل العام الماضي ليوم واحد."

لكن الأمر لا يحدث في مصر وحدها، مع أنه حصل في مصر أيضاً ... نرى انقلاباً بعد انقلاب في هذه الأيام وفي كافة أنحاء العالم. انقلابات ممولة ومدبَرة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا ... كما يتم تدمير كافة هذه البلدان، أو قصفها. يمكننا أن نراها بوضوح، ونحن نشاهد الصور (المرفقة مع تعليقات موروبة) في كل يوم: من مصر إلى أوكرانيا إلى تايلندة. ليبيا المدمرة وسوريا المشلولة. البحرين النازفة. العديد من المحاولات الانقلابية ضد أي حكومات تقدمية في أمريكا اللاتينية. مجموعة من البلدان الأفريقية التي تتعرض للإرهاب على يد الغرب – من مالي إلى الصومال، ومن جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى أوغندة.

تتصرف فرنسا الآن وكأنها بلد مارق. أمم بأكملها مغطاة بالدم والقيح، تحكمها عصابات تدعمها وتمولها "الإمبراطورية"، بعد عدة عقود من اغتيال أو إسقاط العديد من القادة العظام.

هناك الكثير من الدلائل والمعلومات حول ما أتحدث عنه هنا.

في حال لم يتمكن الغرب من تدمير أو إسقاط حكومة إحدى البلدان القوية، فإنه يقامر بحياة البشر في الدول التي تنتمي إلى زبانيته: لقد غادرتُ مانيلا، الفيليبين، لتوي حيث شرح لي أستاذان جامعيان – إدوارد وتيريزا تاديم – كيف تحاول الولايات المتحدة تحريض بلدان جنوب شرق آسيا ضد الصين؛ حليفتها التاريخية والطبيعية.

إن الصحافة في البلاد خانعة، ولذلك فقد تم نسيان إرهاب الاستعمار الأوروبي وحملة الإبادة الأمريكية ضد الشعب الفليبيني بطريقة إعجازية.

الدعاية ناجحة. الصين هي الطرف الشرير! الدعاية الغربية مؤثرة، ومهنية، وقاتلة. لا أحد يعرف شيئاً عن الجزر المتنازع عليها؛ لا أحد يدرس التاريخ أو الوثائق القانونية. لكن الصين، بكل بساطة، على خطأ. يجب أن تكون على خطأ، لأن هذا ما يرددونه على التلفزيون وفي الصحف كل يوم، وعلى مدى سنوات.

يقوم الغرب بالتحرش بالصين، وبشكل مستمر، بينما يعمل على نشر الدعاية المناهضة للصين في كل مكان، متجاهلاً بشكل كامل إنجازات هذه البلد العظيمة وحقيقة أنها تمر بإصلاحات اشتراكية هائلة تتعلق بالرعاية الصحية، والتعليم، والإسكان، والفنون والنقل العام، على سبيل المثال لا الحصر. وبالطبع يجب تدمير أي فكرة تشي بأن الصين دولة اشتراكية ناجحة (فإما أن تكون فاشلة، أو يجب تصويرها على أنها رأسمالية).

تعمل هذه الاستفزازات، والعديد منها ذو طبيعة عسكرية، الآن على استخدام القوة الإمبريالية الإقليمية القديمة، اليابان (ورئيس وزرائها اليميني المتطرف) التي أصبحت فجأة بحاجة إلى "الحماية". ومن نافل القول إن بمقدور ذلك أن يقود إلى حرب عالمية ثالثة.

هناك استفزازات مماثلة ضد روسيا – ضد أمريكا اللاتينية ... وزيمبابوي، وإيران، وإريتريا – أو أي بلد يرفض الخضوع للتخويف، أو للتضحية بشعبه ولعق حذاء "الإمبراطورية".

والشعوب الغربية عمياء وصماء. أو أنها تتظاهر بأنها لا تعرف ولا ترى.

هناك احتمالان لتوضيح السبب: إما، كما كتبتُ في تحليلاتي السابقة (بما في ذلك "الغرب المعبأ فكرياً")، أن الجماهير الغربية ضائعة تماماً وخاضعة للدعاية الرسمية (وتبدو الجماهيرَ الأكثر جهلاً وغباءً في العالم، باعتقادي). أو أنها، ببساطة، تتظاهر بالغباء والجهل، لأن الوضع الراهن يتماشى مع مصالحها – إذ يمكنها الإفادة من النهب الذي تقوم به حكوماتها وشركاتها، بينما تتظاهر أنها لا تزال متفوقة أخلاقياً على بقية العالم ... دون أدنى شعور بالذنب.

* * *

نكتب ونكتب، ونصور ونتكلم ... يتم إطلاق اتهامات خطيرة، والبرهنة على الجرائم ... ولكن مرة أخرى: لا شيء يحدث!

الحقيقة الأكثر مدعاة للقلق هي عجز أي اكتشاف أو تعرية للجرائم التي ترتكبها الحكومات والشركات الغربية، بغض النظر عن حجمها أو وحشيتها، عن إزعاج أحد بحيث يطالب رجال ونساء "الإمبراطورية" باستقالة حكوماتهم أو تغيير النظام السياسي والاقتصادي برمته.

يبدو أن عمليات الإبادة لا تشكل سبباً كافياً للمطالبة بتغيير النظام.

الطبيعة العلنية للنظام الاقتصادي والاجتماعي اللصوصي، النهلستي، والشاذ الذي يسيطر عليه حفنة من اللصوص، لم تعد قادرة على التحريض على الأعمال الثورية، أو التمردات الشعبية على امتداد الأمة. حتى حجم التظاهرات آخذ في التقلص. وفي حال كانت هناك تظاهرات فعلية، فإن مطالبها تكون هزيلة ومثيرة للشفقة – رفع الأجور، على سبيل المثال، لكنها نادراً ما تستند إلى أسباب إيديولوجية.

ما هو عدد المرات التي نرى فيها احتجاجات ضخمة في أوروبا ضد نهب وقتل الشعوب في أفريقيا أو آسيا ... أو ضد "الموجة الفرنسية الجديدة" الإمبريالية، على سبيل المثال؟ أو ضد شركة "آفريكوم" العملاقة التي تجلس وسط أوروبا – في مدينة شتوتغارت؟ هذا الكيان الوحشي، وتبعاً لكلماته هو: "مسؤول عن العمليات العسكرية الأمريكية ضد، والعلاقات العسكرية الأمريكية مع، 53 بلد أفريقي – وهي مساحة من المسؤولية تغطي أفريقيا كلها باستثناء مصر"، وهو محشور في "ثكنات كيللي"، على تخوم مدينة شتوتغارت ... التي تنتج بدورها سيارات المرسيدس والبورش للنخب الفاسدة وأولادهم في كافة أرجاء العالم.

لا أحد يحتج ولا أحد يأبه. شهدتُ بعض المظاهرات ضد بناء محطة قطار جديدة في شتوتغارت، لأن بناء المحطة الجديدة كان يستدعي قطع بضع شجرات ... كانت هناك بضع مظاهرات ضد تدمير "الشخصية التاريخية للمحطة"، لكنني لم أرَ أية مظاهرات هامة ضد شركة "آفريكوم" أو ضد تدمير حياة المئات من الملايين، في كافة أنحاء العالم، من قبل الشركات الألمانية.

يبدو الأوروبيون (والأمريكيون الشماليون) "مدرعين" ضد أي معلومات يمكن لها أن تُشعرهم بالاشتراك في المسؤولية عن النهب والتدمير اللذين نشرتهما، وتنشرهما، "إمبراطوريتهم"، لسنوات، لعقود، وحتى لقرون، في كافة أصقاع الأرض.

وليس هناك أيضاً أي شعور بالذنب أو الغضب أو الرعب من الاستعمار والاغتصاب والنهب الذي تعرض له الكوكبُ كله (بما في ذلك أمريكا الشمالية، بما أن قتل السكان الأصليين قد تم على أيدي الجيلين الأول والثاني من المهاجرين الأوروبيين)، وليس هناك أي احتمال لقيام الغربيين ومطالبتهم بوضع حد للرعب المسؤولين عن فرضه على أفريقيا، وآسيا، والشرق الأوسط، وأمريكا اللاتينية، بما في ذلك أوقيانوسيا.

قدم جون بيركينز دلائلَ هامة عندما كتب: "اعتراف قاتل اقتصادي"، الكتاب الذي وجد طريقه إلى قائمة أفضل المبيعات في "نيويورك تايمز". بيعت عدة ملايين من النسخ بلغات عديدة، و ... لم يحدث شيء!

التقيتُ جون في استوديوهات "آي إن إن" في مدينة نيويورك. أجريت معه مقابلة حول كتابه "اعتراف" ومقابلة معي حول فيلمي الوثائقي "تيرلينا – تحطيم أمة"، الذي يدور حول جنون ووحشية النظام الإندونيسي بعد انقلاب 1965/66 المدعوم من الولايات المتحدة.

تبادلنا الملاحظات. في كتابه، كتب جون سرداً حول نشاطاته وواجباته السابقة. ففي عمله لصالح وزارة الخارجية، استخدم المال والجنس والكحول لإفساد الحكومات في أماكن مثل الإيكوادور وإندونيسيا لكي تقبلَ بقروض عبثية وغير مفيدة ستختفي لاحقاً في جيوب النُخب ولا تجلب شيئاً سوى البؤس الشديد للطبقات الفقيرة والمتوسطة. لماذا؟ الجواب بسيط: لأن الدول المديونة قابلة للسيطرة بطريقة أسهل.

بالطبع، في أي بلد أو مجتمع عادي، من شأن هذا الاعتراف أن يسقط الحكومة مع النظام السياسي والاقتصادي كله. ليس هناك أدنى شك أن هذا ذروة "انعدام الأخلاق"، وأن نظاماً ينتج هذا النوع من السيناريوهات العالمية يجب ألا يكون محط ثقة لحكم بلده نفسها.

ولكن لم يحدث اي شيء في الولايات المتحدة. وحسب معلوماتي، لم تخرج أية مظاهرات نتيجة كتاب بيركينز.

في بودابست، أشياء أقل من هذه بكثير أشعلت "انتفاضة" 1956 – انتفاضة حرض عليها الغرب بشكل جزئي (بما في ذلك الذراع الدعائي للحكومة الأمريكية – "راديو أوروبا الحرة")، وتم تمجيدها لاحقاً بصفتها نضالاً ضد الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية.

النتيجة المزعجة والصريحة هي أن المواطنين الغربيين غير قادرين على، أو غير راغبين في، القتال والدفاع عن حياة أولئك الذين يتعرضون للتدمير على يدي "الإمبراطورية". لم يعودوا أهلاً للثقة. لقد فشلوا على مدى عقود طويلة.

انتظرت شعوب العالم وأملت في ظهور المعارضة من داخل "الإمبراطورية".

اضطرت الصين إلى الانتفاض لوقف الهجمات العسكرية ضد أراضيها. وكان على روسيا استعادة قوتها للتخلص من كل ذلك العفن الذي كان يحول الأمة إلى "دولة زبانية" أخرى تابعة لواشنطن – من معاتيه سُذج من أمثال غورباتشيف  إلى المستبد السكير يلتسين. كما احتاجت أمريكا اللاتينية إلى عدة عقود من القتال والثورات، ومئات الآلاف من الشهداء، لكي تشكل أخيراً جبهة ضخمة موحدة ضد مستعمري وفاشيي الشمال.

* * *

لكن السؤال الذي أريد أن أطرحه اليوم هو: إذا كان كل شيء قد فشل حتى الآن، فكيف علينا أن نتعامل مع الجماهير الغربية؛ كيف نخاطبها؟

هل يفيد في شيء أن نتحدث إليهم، ونخاطبهم، حتى بعد أن أظهروا كل ذلك الجهل والغباء القاتل والاستهتار والعبودية؟

هل سيغير قصفهم بالحقائق – سواء الأوروبيين منهم أم الأمريكيين الشماليين – أي شيء؟

إذا عرضتُ عليهم ما فعلوه في أفريقيا الشرقية والوسطى، هل سيتمردون؟ نعرف الجواب، وهو: لا، لن يتمردوا.

إذا أخبرناهم بما يفعلونه بأوكرانيا، فهل سيطالبون بوقف كل تلك المساعدات لأولئك المجرمين الذين يهيمنون على السلطة هناك الآن (بمن فيهم ذلك "الرئيس المنتخب الجديد")؟ قطعاً لا! فبالنسبة إلى الغالبية منهم، ليست أوكرانيا سوى جزأ من الأخبار المسلية التي يشاهدونها كل مساء، وهم يحشون بطونهم على موائدهم العامرة.

معظمهم لا يعيرون أي انتباه. إنهم لا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا ... ومع ذلك فهم يتظاهرون بأنهم أكثر اطلاعاً من بقية العالم. هذا لا يليق بمواطني البلدان التي تدمر العالم.

أنا أؤمن بالإحساس الجماعي بالذنب، وبالمسؤولية الجماعية. كلما عرفتُ الثقافة الأوروبية أكثر، كلما خبرتُ خداعها وكذبها أكثر، كلما ترسخ إيماني بالإصرار على هذا الإحساس الجمعي. وهم لا يحبون ذلك بالطبع. ثحدث إليهم عن الإحساس الجمعي بالذنب فينقلبون ضدك مثل قطيع من الثيران الهائجة ... لأسباب منطقية جداً. فأن تكون أحدَ مواطني القارة المسؤولة عن تدمير الكوكب، ولقرون طويلة، ليس نكتة؛ إنها مسؤولية كبيرة، وعبء ... قُل لمغتصب إنه مغتصب، وسوف يحطم جمجمتك. قل لرجل عصابات إنه رجل عصابات وسوف ترى ما سيحدث.

* * *

إذاً ماذا يجب علينا أن نفعل؟ هل يجب أن نتوقف عن الكتابة؟ طبعاً لا!

هناك بعض الناس الشرفاء أيضاً. قراؤنا ... نكتب لهم، ولهم فقط، ونشقى ونجازف بحياتنا.

ولكن كيف وأين نتحرك من هنا؟ ما هي الاستراتيجية؟

بصراحة، لا أعتقد أن بمقدور الحقائق المغلفة بالكتابة الأكاديمية أن تغير شيئاً. أي شيء على الإطلاق. يمكنها أن تساعد في تأصيل بعض الأساتذة الجامعيين، أو حتى "توثيق" بعض الأشياء، ولكن لا تتوقعوا أن بمقدور تلك الحقائق و "الوثائق" أن تشعل ثورة، أو تؤدي إلى تغيير حقيقي.

فكما هي الحال الآن، جميع جرائم "الإمبراطورية" موثقة جيداً. ويمكن الحصول على المعلومات وقراءتها وفهمها بسهولة بالغة. لذلك يمكننا أن نستنتج بسهولة بالغة أن الحقائق الصرفة لم تعد تحرك أحداً. وإلا لكان الميدان كله، الوضع كله، مختلفاً الآن.

يتم استخدام ’الحقائق‘ بشكل فعال الآن فقط ضد البلدان والأحزاب الشيوعية من قبل آلة الدعاية الغربية القوية والموجهة، ونحن نتحدث هنا عن ’الحقائق‘ المضخمة والمبالغة والملتوية. يكررونها آلاف المرات، مرة بعد أخرى، وكما كان الأمر في ألمانيا النازية، فإنها تصبح حقائقَ: الحقائق المقبولة عالمياً.

ولكن حتى العديد من المثقفين اليساريين، كما يؤكد باديو، بدؤوا يقبلون تلك ’الحقائق‘ المفبركة والمزورة، على الرغم من زعمهم بأنهم يعرفون أيضاً أن الأفراد والشركات التي تنشرها لها مصلحة واضحة في تشويه الحقائق عبر إعلامها الرسمي وجامعاتها الرسمية، مما يزيد في حدة التناقض.

بما أنني عملتُ في جميع تلك الأماكن التي يتم استخدامها كأمثلة، بمثابة "برهان على شر الشيوعية"، يمكنني أن أشهدَ أن ’الحقائق‘ التي يقدمها جهاز الدعاية الغربي تتراوح بين التضخيم والكذب المطلق. وينطبق هذا على أوكرانيا (بما في ذلك ’المجاعة‘ التي حصلت في الثلاثينيات من القرن الماضي)، وكمبوديا، وكوريا الشمالية، ومعتقلات "الغولاغ" في الاتحاد السوفييتي، والمجاعة الصينية و "الثورة الثقافية". إن أنصاف الحقائق، كما نعرف، أكثر خطورة من الأكاذيب المباشرة.

إن معارضة تلك الفبركات في مؤلف أو مؤلفين شيء عبثي. ستكون أنت فقط، وبعض الأشخاص الذين يعرفون ـ نك تعرف، وهم على استعداد للمجازفة بكل شيء وإطلاع الناس على الحقائق، في مواجهة مئات الآلاف من المعلومات المزيفة المكررة، في مواجهة عنفوانها، وحتى مؤسساتها الأكاديمية وصحافتها. لا يمكنك أن تفوز في هكذا معركة.

حاولت في موضوع الإبادة الجماعية في راوندة: تلك الكذبة الصفيقة التي فبركتها الدعاية الغربية والتي قمت بتوثيقها بشكل كامل. لا يمكنك أن تفوز – ثقوا بي، حتى لو كنتم تملكون جبلاً من الدلائل والبراهين.

إذاً ماذا علينا أن نفعل؟

هل يمكن أن تفيد كتب الاعتراف التي يكتبها أولئك المستعبدون الغربيون؟ إذا كان بيركينز قد فشل، فمن سيفعل أفضل منه؟

الصحافة الاستقصائية؟ مثلها مثل الكتابة الأكاديمية: لا يبدو أنها تحرك أحداً الآن. بالتأكيد لا "تدفعهم إلى التحرك" ...

أنا شخصياً اختبرتُ الجحيم، والنار، وبعض هجمات القناصين، والأحكام بالموت، والتعذيب، وحتى ل "الاختفاء" في إحدى المرات ... كل هذا لكي أوصلَ المعلومات للناس، لكي ألهبَ حماسهم، لأغضبَهم، لأزعجهم، لكي يقوموا بواجبهم ويساعدوا في إيقاف الإبادات الجماعية التي شهدتها في كافة أنحاء العالم. ولكن هل غيرتُ أي شيء؟ هل تمكنتُ من إيقاف الغزاة الغربيين أو منع "انقلاباتهم"؟ لا أعتقد ذلك ...

* * *

سأتخلى عن الصحافة والكتابة الأكاديمية. لقد تخليت عنهما في الواقع، وبشكل كامل، منذ سنتين.

أنا الآن في موقعي القديم، قبل نشوء صحافة الشركات الرسمية. أنا كاتب وصانع أفلام يساري. لا أخفي ذلك، ولا أكذب. هذا أنا، وأنا فخور به. التقاليد عظيمة، وأنا أفتخر بتقاليدنا أيضاً: من همنغواي  و أورويل، إلى ريزارد كابوتشينسكي و ويلفريد بيرتشيت!

أذهب إلى ساحات الحرب لكي أقاتل مع الثورات، لأكون مع مقاومة الإمبريالية. لا أذهب إلى هناك لكي "أكتبَ مقالات موضوعية" ("التقارير الموضوعية" ضرب من الجنون). المناصب ثلاثية القوائم، والكمبيوترات، والكاميرات، والمسجلات – كلها أسلحتي؛ أسلحتنا.

في العديد من الأماكن التي أذهب إليها، الناس يموتون. الكثيرون منهم يموتون الآن. النساء تتعرض للانتهاك، والقرى والمدن تتعرض للقصف والحرق.

جميعنا، بما في ذلك همنغواي وأورويل وبيرتشيت كنا، بالطبع، فنانون وشعراء. وكانوا يكتبون هكذا.

وهذه هي النتيجة التي وصلت إليها الآن:

عندما يكون المرء في الحرب، أو يدافع عن الثورات، أو يحارب الإمبريالية: على المرء أن يكونَ شاعراً، وأن يكتبَ كشاعر ... يجب أن يكون كل تقرير جزأ من رواية عظيمة ستُكتب في المستقبل، أو تتم كتابتها الآن هناك، عندما يقوم المرء بتحضير تقاريره. وإلا فكله خراء، ولن يؤثر في أحد أو يغيرَ شيئاً.

هنا تكمن ميزتنا، في مواجهتنا مع عاهرات الشركات: نحن بشر وأحياء ولدينا قلب في الجهة اليسرى ودم أحمر، ونقوم بكل ما نفعله لأننا نحب هذا العالم بشغف ... نحب هذه الإنسانية ... ونقاتل، ونحن مستعدون لكي نموت، من أجلها.

يجب على كل تقرير أن يحتوي قصيدة مخبأة داخله. يجب أن يلامسَ الناس. يجب أن يقدمَ الدفء والراحة، ويجب أن يهيجَ الناس ويدفع بهم إلى المتاريس.

يجب أن نتعلم كيف نكتب بتلك الطريقة مرة أخرى. وإلا سيضيع كل شيء!

وعندهاً، وبدلاً من أن نعيد اجترار ما نقوله مرة بعد أخرى كما يفعل أولئك الكتبَة والأكاديميون المرتبطون بالشركات، علينا أن نستمع إلى الناس، وليس إلى المؤسسات، وليس إلى بعضنا البعض.

القصاص الأمريكي اللاتيني الأعظم، إدواردو غاليانو، قال لي مرة، في غياهب مقهاه العتيق "مونتيفيديو": "لماذا أكتب بهذه الطريقة؟ لأنني أستمع بشغف إلى الآخرين."

نعم، القصص الإنسانية محرضة، وصادقة، وثورية. فإذا استمع الكاتب للناس فعلاً، فإنه يعرف ماذا سيكتب وكيف. وسيعرف كيف يحارب من أجل الناس ويدافع عنهم، بدلاً من تقديم الخدمات للشركات الرأسمالية.

أنا أستمع أيضاً. حيثما أذهب، أستمع. لا أشاهد التلفزيون. أستمع إلى القصص عوضاً عن ذلك.

طرحتُ العديدَ من الأسئلة اليوم. ولست متأكداً أنني أعرف الإجابات على هذه الأسئلة:

كيف نكون مؤثرين وفاعلين؟ كيف نحرك الناس؟ كيف نلهمهم بحيث ينضموا إلى النضال من أجل عالم أفضل، حتى لو كان هذا العالم متناقضاً مع مصالحهم وامتيازاتهم الآنية؟

ما أكتبه هو لكم، يا قرائي. لا أكتب لكي أسمعَ نفسي وأنا أتحدث، ولكن لكي أنقلَ لكم ما قاله الآخرون، وكذلك كيف يعاني والآخرون ويحلمون.

أقتبس هنا قصيدة وأغنية عظيمة للفنانة التشيلية فايوليتا بارا:

شكراً للحياة التي أعطتني الكثير

أعطتني الضحكَ وأعطتني الحنين

أميز بهما الفرحَ والألم

المادتان اللتان تشكلان أغانيَ

وأغنيتك، أيضاً، نفس الأغنية

أغنية الجميع، أغنيتي أنا.

 

أريدكم أن تتحدثوا إلي، ياقرائي. كتبتُ الكثير؛ وقد قرأتم ما كتبتُه بصبر. والآن اكتبوا لي. أريد أن أستمع. كيف نتقدم إلى الأمام؟ أنتم وأنا، سوية ... ما الذي يؤثر فيكم؟ ما الذي يبكيكم؟ ما الذي يمكن أن يدفعكم إلى الانتفاض والنضال من أجل عالم أفضل؟ كيف ننسق خطواتنا ونمضي إلى الأمام، سوية؟

 

http://www.counterpunch.org/2014/05/30/how-should-we-write-and-fight/

تُرجم عن ("كاونتربنتش"، 30 أيار/مايو – 1 حزيران/يونيو 2014)

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...