مصر: الديون وإعادة إنتاج الأزمة

21-10-2016

مصر: الديون وإعادة إنتاج الأزمة

تُقدّم الحكومة المصرية قرض «صندوق النقد الدولي»، والبالغة قيمته 12 مليار دولار، على أنه إنجاز كبير للحكومة في حال تحقّقه. ليس فقط لأن القرض سيُمثّل حلاً لأزمة النقد الأجنبي وعجز الموازنة اللذين تُعاني مصر منهما. ولكن لأن موافقة «صندوق النقد الدولي» على إقراض مصر هذا المبلغ يُمثّل شهادة ثقة للاقتصاد المصري تؤكد صلابة الاقتصاد وقدرة مصر على سداد ديونها.أطفال يلعبون وسط المقابر في «مدينة الأموات» في القاهرة (أ ب ا)
ولكن هناك جانباً آخر في قرض «صندوق النقد» يجعل تلك الدعاية محلّ شكّ. فالاقتراض في حدّ ذاته يُمثّل استمراراً لنفس سياسة الدولة التي أنتجت الأزمة الحالية. كما أن القرض مشروط بالحصول على قروض وضمانات قروض بستة مليارات دولار من دول وجهات أخرى. أي أن الدولة تسعى لاقتراض 18 مليار دولار.
مع تصاعد الأزمة الاقتصادية في مصر أصبحت أزمة الدين الخارجي والعام أحد أهم جوانب تلك الأزمة، ومن المُثير للاهتمام، أن تعتبر الدولة أن الخروج من الأزمة سيكون عبر الآلية نفسها التي أنتجتها.
وبالنظر للبيانات الرسمية التي تُوضح حجم الدين، تبدو الأزمة أكبر من المحتمل. فوفقاً للتقرير الأخير الصادر عن المصرف المركزي المصري بلغ حجم الدين الخارجي 55٫8 مليار دولار تقريباً. هذا الرقم ليس ضخماً فحسب، ولكنّه له أكثر من دلالة. فحجم الدين الخارجي أصبح يُمثّل حوالي 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وبحسب تقرير المصرف المركزي، بلغت خدمة الدين الخارجي في العام المالي 2015 ـ 2016، سواء أقساط أو فوائد، أكثر من خمسة مليارات دولار. وهي نسبة مُعتبرة. كذلك تبلغ الديون قصيرة الأجل، والتي تُمثّل ضغطاً مُباشراً على مالية الدولة واحتياطي النقد الأجنبي، أكثر من سبعة مليارات دولار، وهو رقم كبير بالقياس لاحتياطي النقد الأجنبي الذي وصل أخيراً لحوالي 19 مليار دولار.
لكن الملاحظة الجديرة بالذكر على حجم الدين الخارجي، هو أنه ارتفع من حوالي 34 مليار دولار في العام 2013، إلى 55٫8 مليار دولار في العام 2016. وهو ما يعني أن الدولة اقترضت بالفعل أكثر من 20 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الماضية، فضلاً عن منح ومُساعدات وتسهيلات ضخمة خلال الفترة نفسها، ومع ذلك لم يعنِ ذلك الخروج من الأزمة، بل على العكس تفاقمت الأزمة الاقتصادية بحيث ارتفعت نسبة عجز الموازنة العامة، وزاد عجز ميزان المدفوعات الخارجية، وارتفعت مُعدّلات التضخّم بشكل غير مسبوق، وتراجعت قيمة العملة المحلية بقوّة، بالإضافة لندرة في العملة الصعبة، إلى آخر مظاهر الأزمة. فما الذي يجعل الدولة تُفكر أن الاستمرار في الاقتراض سيؤدي هذه المرّة لنتيجة مختلفة.
الدين الخارجي لا يُمثّل كل الأزمة، بل على العكس من ذلك، تتضاعف أزمة الدين الخارجي والذي يتّجه للزيادة، مع دين خارجي ضخم يتجاوز نسبة الـ90 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وهو ما يعني أن النسبة الأكبر من الموازنة العامة للدولة تذهب مباشرة لخدمة الدين سواء الداخلي أو الخارجي، وتُقدّر تلك النسبة بـ45 في المئة من الإنفاق الحكومي. وهو ما يُمثّل عبئاً استثنائياً على قُدرات الدولة على الإنفاق على الدعم والأجور والاستثمار. ولكن الأثر الأهم لحجم الدين الضخم، هو أنه يُؤدي إلى ارتفاع عجز المُوازنة العامّة، وهو ما يدفع الدولة للاستدانة مجدداً لسدّ عجز المُوازنة، وبالتالي تزداد حدة الأزمة التي تسعى الدولة لحلّها عبر الاقتراض، وبالتالي لا تقوم الدولة عبر سياستها سوى بإعادة إنتاج الأزمة مرّة أخرى على نحو أكثر قسوة.
الاتجاه المُستمرّ للاستدانة، والذي دفع الدين الخارجي والدين الداخلي لحدود غير آمنة، يأتي بسبب العجز الدائم للموازنة العامة وانخفاض الإيرادات وتراجع موارد النقد الأجنبي.
ولكن الاعتماد على الاقتراض من الداخل والخارج هو بالذات ما يؤدي إلى رفع نسبة خدمة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، ويؤدي لعجز الموازنة العامة، ويزيد من نسبة التضخّم، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى انخفاض قيمة العملة المحلية من ناحية، ومن ناحية أخرى الضغط على احتياطي النقد الأجنبي بسبب أقساط الديون الخارجية وفوائدها. وحقيقة الأمر لا يؤدي بأي درجة لرفع الايرادات والموارد وهو ما يُمثّل حلاً حقيقياً للأزمة.
الحقيقة أن التشكيك في نتائج السياسات التي يفرضها «صندوق النقد الدولي» في مقابل القروض، لا يحتاج للكثير من الجهد. فيكفي النظر لتجارب الدول التي طبّقت تلك السياسات في مراحل مُختلفة، مثل الأرجنتين والمكسيك، ومصر أيضاً، والتي تفاقمت فيها الأزمات وصولاً لانهيارات اقتصادية مثل التي وقعت في المكسيك والأرجنتين، أو لانفجارات اجتماعية كالتي وقعت في مصر في العام 2011، بعد 20 عاماً من بدء تطبيق سياسات «صندوق النقد».
كما أن هناك نماذج لدول رفضت تطبيق وصفة «صندوق النقد»، واتّبعت سياسات تنموية بالاعتماد على الموارد وتدعيم دور الدولة في التنمية الاقتصادية، ونجحت في تجاوز أزماتها، مثل كوريا وماليزيا.
هنا تلعب الانحيازات الاجتماعية دوراً حاسماً في اختيار المسار الاقتصادي، ليتجاوز الأمر الخلافات النظرية لتضارب المصالح. فالبديل المُمكن والواقعي للاقتراض يبدو واضحاً بتحمّل الطبقات الغنية مسؤوليتها الاجتماعية عبر سياسة ضريبية عادلة ترفع إيرادات الدولة وتُساهم في سدّ عجز المُوازنة العامّة. ولكن ما تقوم به الدولة بالفعل هو خفض الحدّ الأقصى للضريبة على الدخل من 30 في المئة إلى 22٫5 في المئة، ثم تفرض ضريبة القيمة المضافة على المستهلكين. وهو ما يعني تحميل الطبقات الفقيرة أعباء الأزمة بدلاً من الطبقات الغنية، ومن ناحية أخرى تُخفّض الدعم على الوقود والسلع الأساسية، وتُقلّص بند الأجور في الموازنة العامة، وترفع رسوم استهلاك الكهرباء والمياه والغاز. هكذا يتحمّل الفقراء أعباء الأزمة مرّتين، مرة عبر الاعتماد عليهم في رفع إيرادات الدولة، ومرّة عبر تقليص الإنفاق المُوجّه لهم. وبالإضافة لما تتّسم به تلك السياسة من انعدام في العدالة، فإنها أيضاً تتّسم بالفشل الذريع في حلّ الأزمة، فما أنتجته تلك السياسة من قبل في مصر لم يكن سوى المزيد من الأزمة، فالسياسات التي أدّت للتضخّم وارتفاع الأسعار، أضعفت القدرة الشرائية لدى قطاعات واسعة من المُواطنين، وهو ما يدفع في اتجاه الركود. وهو ما يُفاقم الأزمة ولا يحلّها.
اللافت للانتباه، أن أزمة الديون التي تُواجهها مصر ليست الأولى، فقد شهدت مصر من قبل أزمة ديون عنيفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو ما أدى لفرض رقابة أجنبية من انكلترا وفرنسا على المالية المصرية، وهو ما أدى أيضاً لاستعمار مصر من قبل انكلترا قبل نهاية القرن التاسع عشر. وفي المرة الثانية، عندما تفاقمت أزمة الديون في مطلع التسعينيات، وهو ما اضطر النظام المصري للمُشاركة في حرب «عاصفة الصحراء»، والتي كانت بداية إعادة صياغة شكل المنطقة وفق الرؤية الأميركية، وكان هذا في مقابل إسقاط جانب من الديون المصرية.
سياسة الاستدانة التي تتّبعها الحكومة المصرية حالياً، والتي أدّت لتضخّم الدين الخارجي والدين الداخلي على نحو خطير، لن يتوقّف تأثيرها عند الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وقد تكون تبعاتها السياسية أبعد تأثيراً من مصر، ليصل إلى المنطقة إذا ما استمرّ استخدام العوامل الاقتصادية في الضغط على السياسة المصرية من قبل دائنيها.

مصطفى بسيوني

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...