مصر: الطريق إلى مدينة الخصوص دماء طائفية أسفل «الدائري»

08-04-2013

مصر: الطريق إلى مدينة الخصوص دماء طائفية أسفل «الدائري»

الطريق المؤدي إلى الخصوص، تبعد نحو 25 كيلومتراً شمال القاهرة، وهي تبدو للوهلة الأولى سهلة نظرياً لكن الحقيقة ليست كذلك على الإطلاق.
المدخل الرئيسي للخصوص، التي تحولت من قرية إلى مدينة قبل سنوات من دون أن تفقد طبيعتها الريفية، يأتي من الطريق الدائري الذي يمتد لـ100 كيلومتر ويحيط بالقاهرة الكبرى منذ العام 1986، أما الطريق فيضيق كلما توغلت السيارة إلى عمق المدينة. اقباط يحمون مسلمين يصلون بعد مشاركتهم في تشييع القتلى داخل الكاتدرائية المرقسية في حي العباسية في القاهرة امس (رويترز)
كنيسة «مار جرجس»، التي تقع في محيط الاشتباكات الدامية بين مسلمين وأقباط في المدينة، توجد في الطرف الثاني من المدينة، أي من «الناحية الأخرى من الدائري»، كما وصفها لنا صاحب محل دواجن في الخصوص.
«الدائري» يقسم المدينة إلى قسمين إذاً، لكن القسم الذي يضم الكنيسة هو الأقدم. في الطريق إلى الكنيسة تمر سيارتان بالكاد في الشارع الضيق الذي تتراص على جانبيه العديد من المحلات. تنتشر هنا بقايا صور خاصة بالدعاية للمرشح الإخواني للرئاسة آنذاك محمد مرسي، وزميله المنشق عن الجماعة عبد المنعم أبو الفتوح. ثمة أيضا تواجد لافت لدعاية للسلفي المثير للجدل حازم أبو إسماعيل الذي لم يشارك في السباق الانتخابي من الأساس. ولا يوجد ظهور لأي نشاط إخواني هنا باستثناء لافتة لسوق يرعاها حزب «الحرية والعدالة» الإخواني لبيع لحوم العجول والجمال المدعمة.
وكعادة أي مدينة ريفية في مصر، ينتشر الحجاب بكثافة حتى بين الفتيات الصغيرات. هكذا يبدو من السهل تمييز المسيحيات دون الكثير من الجهد. أغلب مباني المدينة اكتفى أصحابها ببنائها بالحجر الأحمر فقط، وبعشوائية ممنهجة، جارت على الكثير من الأراضي الزراعية الخصبة التي تتميز بها محافظة القليوبية التي تنتمي لها الخصوص إدارياً. ولهذا، فإن الشوارع ضيقة للغاية وغير ممهدة وكأن أصحاب العقارات تركوها مرغمين من دون بناء حتى يستطيعون التحرك إلى منازلهم ذهاباً وإياباً.
تبعد الكنيسة عن مدخل المدينة نحو أربعة كيلومترات، وبامتداد هذه المسافة، لا تظهر أي ملامح عنف طائفي أو اضطراب أمني، المقاهي ممتلئة بالزبائن، حركة البيع والشراء في المحلات التي يجور أصحابها بالبضائع على الجزء المتبقي من الطريق الضيق بالأساس طبيعية، درجة الحرارة المرتفعة في هذا النهار، دفعت البعض إلى رش المياه على الطريق. الأمور هادئة وروتينة للغاية، ولا تشير مطلقاً إلى أن الخصوص شهدت مساء الخميس الماضي اشتباكات دامية بين أقباط ومسلمين بسبب مشادة بين أطفال، تدخل فيها الأنصار من كل «دين»، فقتل خمسة وأحرقت ثلاثة منازل، وحاصر مسلمون كنيسة مار جرجس الكبرى بالمدينة في محاولة لاقتحامها، قبل أن تأتي قوات الشرطة لتحول دون ذلك.
لكن الأمر يتغير تماما فور الوصول إلى أول الطريق المؤدي إلى الكنيسة. التوتر يكسو الوجوه. التحفز يحيط بكل حركة. غالبية المحلات، وكثير منها يحمل أسماء قبطية، مغلقة. رجال كثر متواجدون على جانب الطريق الذي تظهر في بدايته صورة ضخمة للبابا شنودة، بابا الأقباط الذي توفي العام الماضي ويتمتع بشعبية كبيرة بين مسيحيي مصر والشرق. الكل يتطلع تجاه الكنيسة التي تقع تحت حراسة مشددة من قوات الشرطة، بواسطة خمس سيارات ممتلئة بجنود الأمن المركزي وثلاث سيارات مدرعة مجهزة لإطلاق القنابل المسيلة للدموع.
المشهد أمام الكنيسة متوتر للغاية. مئات الأقباط متجمهرون في غضب. الأخبار الواردة إليهم من كاتدرائية العباسية حيث الاعتداء بالخرطوش والمولوتوف على جنازة ضحاياهم زادت الأجواء توترا. ثمة حديث عن إمكانية أن يقوم بلطجية بهجوم مماثل عليهم هنا أمام الكنيسة. يحاول ضابط شرطة تهدئتهم طالباً منهم أن يفتحوا الطريق أمام الكنيسة حتى تستطيع قوات الأمن التعامل مع أي هجوم محتمل. يهتف واحد منهم «اللي بيحب المسيح يوسع»، يحدث تفرق للتجمع على مهل للجهة المقابل للكنيسة. «لابد أن نترك الشرطة تعمل» يقول مينا (38 عاما) وهو يعود للرصيف المواجه للكنيسة، ثم يضيف «مش كل المسلمين وحشين... منهم من جاء للتضامن غاضباً... لكن علينا ألا نترك حقنا أو نصمت».
ولكن ما الذي حدث بالضبط؟ الرواية المتفق عليها من شهود عيان أن صبية أقباط رسموا رمز النازية الصليب المعقوف على جدار معهد أزهري مواجه لمنزل ثري قبطي. صبية مسلمون قاموا بمسح هذا الرسم، ثم اشتبكوا لفظيا مع الصبية الأقباط، فتطور الأمر سريعاً عندما قدم أنصار من كل عائلة، ثم انطلق الرصاص من جهة أصحاب المنزل القبطي ليصيب شابا مسلما اسمه محمد في مقتل. بعدها تطور الأمر تلقائيا في مجتمع محتقن طائفيا بطبعه، ووصل الأمر فيها إلى حد أن إمام أحد المساجد في المنطقة استخدم الميكروفون الذي يدعو فيه إلى الصلاة، ليحشد المسلمين للانتقام. فوقعت الواقعة في المدينة التي يسكنها نحو 2.5 مليون ربعهم تقريبا من الأقباط، ويشتغل معظم أهلها في تجارة الأراضي والعقارات وغالبيتها تم بناؤها على الأراضي الزراعية بالمخالفة للقانون، ولهذا يعيش فيها الكثير من القادمين من الصعيد من محترفي هذه المهنة.
أحمد، طفل لا يتعدى عمره 12 سنة، يجلس مع والدته أمام محل بقالة صغير مواجه لمعهد الخصوص الأزهري الابتدائي الذي انطلقت منه شرارة الأحداث الدامية. يشير إلى منزل يرتفع إلى نحو 12 طابقا وقد احترقت واجهته بالكامل، بالإضافة إلى الطابقين الثاني والثالث ثم يقول «هذا منزل سمير إسكندر... الرصاص ضرب من هنا وموّت محمد». يصمت للحظة ثم يقول «الموضوع كله كان لعب عيال... بس قلب بجد».
على جانبي المنزل يوجد محلان أحدهما تعلوه لافتة «مكتبة الانبا كارس للتعزيات والأربعين والهدايا السماوية»، والثاني «الشركة الإسلامية لأعمال التجارة»، فهل يعكس هذا تنوعا وتعايشا أمام استفزاز ديني متبادل؟
يقول الشيخ حسن ) 65 عاما( الذي يسكن في الشارع ذاته «الخصوص لم تشهد أي اشتباكات طائفية من قبل. الأقباط هنا عددهم كتير... آلاف... وكنا دوما نحتوي أي خلافات بين المسلمين وبينهم لكن هذه المرة لم نستطع».
وما هي طبيعة الخلافات؟ يجيب «كلها خلافات بين تجار وأصحاب مصالح... خلافات في التجارة وليست في الدين». وبرغم هذه النظرة، يتنبى الشيخ حسن رواية أن الفوضى التي ضربت محيط الكنيسة بعد تجمهر أقباط لحمايتها من أي اقتحام محتمل هي التي أودت بحياة أربعة من الأقباط «هم ضربوا رصاصا عشوائيا... وأصاب منهم من أصاب». لكن الرواية الأخرى التي يتبناها جون (28 عاما) المرابض أمام الكنيسة وقد دق وشما للمسيح على أحد ذراعيه «المسلمون أطلقوا علينا الرصاص والخرطوش عندما أتينا للدفاع عن الكنيسة».
في محيط الكنيسة، أدى ظهور مدير الأمن إلى التجمهر مجددا، التفّ حوله مئات الأقباط وهم يطالبون بالقصاص والحماية. هتف الضابط الكبير قائلا «لماذا تقفون أمام الكنيسة... إذا لم تحمها الحكومة سيحميها المسلمون»، تتعالى الأصوات الغاضبة «هذا ما سمعناه مئات المرات من قبل ولم يحدث شيء... نحن سنموت هنا... سندافع عن الكنيسة حتى الموت»، يتحدث أحدهم غاضبا « لن نموت مرتين».
يصعد مدير الأمن إلى أحد المنازل المحيطة بالكنيسة التي يعتقد بوجود عدد من المسلحين الذين يستهدفون الأقباط بداخله. تتوتر الأجواء مجددا. يظهر أعلى المنزل شخصان يتحركان. تتعالى الهتافات ضدهم. تضرب الفوضى المكان. ويصاب البعض بهستيريا حقيقية وهو يهتف «اضربوهم». يستفز أحد الواقفين زميلا له وهو يهتف «طلع السلاح». يخرج زميله في حركة عصبية مسدساً يحتوي على طلقة واحدة يصوّبه نحو الشخصان في الأعلى، تتحرك مدرعة الشرطة وتتأهب في وضع الاستعداد لإطلاق قنابل الغاز. تتعالى الصرخات «مسيحيين... مسيحيين»، ثم يتدافعون على زميلهم الذي رفع السلاح لمنعه من إطلاق النار، فينجحون بعد طول مقاومة، في إقناعه بأن الموجود أعلى البناية من ديانتهم ذاتها.
الأعصاب عارية تماماً في هذا المربع من الخصوص. ومشاعر الغضب والخوف من استهدافهم لأنهم أقباط لا يبدو أنها ستهدأ. والعبارة المكتوبة بلون أحمر دام على منزل أحد الأقباط الذي لا تزال تتصاعد منه أدخنة الحريق «دم محمد مش هيروح»، ربما تشير إلى أن دم محمد ليس وحده الذي يسيل في هذه المدينة... في هذا الوطن.

محمد هشام عبيه

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...