من يملك رأس نفرتيتي مصر أم ألمانيا
من يملك رأس نفرتيتي؟ ومن له الحق في عرضه؟ مصر، موطن التمثال، أم ألمانيا، البلد الذي اكتشفه؟ هذا السؤال تفجر مرة أخرى بعدما طالبت مصر باستعارة رأس نفرتيتي وعرضه في القاهرة، في حين أن المسؤولين الألمان يعارضون ذلك معارضة تامة، لأسباب عدة واهية، تفصح عن خوفهم من عدم إعادة التمثال مرة أخرى إلى برلين. السؤال قديم وهو يطرح نفسه منذ اكتشاف التمثال في عام 1912، أو إذا شئنا الدقة منذ 1924، العام الذي عرض فيه الرأس علناً للمرة الأولى في برلين، بعدما ظل مكتشف التمثال لودفيغ بورشرت يعارض ذلك "خوفاً من حدوث تعقيدات مع مصر"، على ما قال آنذاك. نظرة على تاريخ هذا النزاع حول "جميلة الجميلات" أو "الجميلة الآتية"، وهو معنى اسم نفرتيتي مترجماً، توضح لنا مسائل ذات دلالة في علاقة الشرق بالغرب، أو دول العالم "المتخلف" بالعالم "المتقدم". الجهل بتاريخ الذات كان سائداً قروناً طويلة في مصر، وكأن مصر القديمة كانت في حاجة إلى عين غريبة لتكتشف كنوز هذه الحضارة. هذا ما حدث في أعقاب حملة نابوليون على مصر واكتشاف حجر رشيد، وفك رموزه على يد الفرنسي العبقري الشاب جان فرنسوا شامبليون. مع مطلع القرن التاسع عشر بدأ تاريخ من نهب الآثار المصرية والاتجار بها، صنعه لصوص المقابر من الأجانب (المكتشف الإيطالي بلزوني أشهر من نار على علم في هذا المجال) ومن المصريين (عائلة عبد الرسول في غرب الأقصر هي المقابل المحلي لبلزوني، ومن رأى فيلم "المومياء" لشادي عبد السلام يتذكر بعض تفاصيل ذلك).
لعل نهب الآثار المصرية والاتجار بها كان سيستمر قرونا طويلة، لو لم يجئ أوغست مارييت إلى مصر منتصف القرن التاسع عشر، حيث بذل جهودا كبيرة وخاض حربا ضارية مع الحكام والمصريين والمكتشفين الأجانب ليؤسس المتحف المصري في القاهرة، ولتبقى آثار مصر في مصر. في هذا المناخ أتى المنقّب الألماني لودفيغ بورشرت إلى مصر عام 1912، وحصل على إذن بالتنقيب في منطقة تل العمارنة، "آخيت آتون"، كما كانت تسمّى في مصر القديمة، المدينة التي حكم منها الملك الشهير إخناتون، أول الموحدين في الأرض. آنذاك كانت اللوائح تنص على تسليم التحف الممتازة إلى مصر، ثم اقتسام الآثار الأخرى بين المكتشف والمتحف المصري في القاهرة.
كان يوم السادس من كانون الأول من عام 1912 مشهودا في عمر لودفيغ بورشرت، إذ حالفه الحظ خلال حفرياته في تل العمارنة، فاكتشف رأس نفرتيتي الرائع الذي خلبَ لبّه، فكتب في دفتر يومياته يقول: "التمثال رائع. لا يمكن وصفه. لا بد من رؤيته". بعد ذلك، تمّ بحسب الرؤية الألمانية اقتسام الآثار المكتشفَة، وكانت "الملكة الجميلة" من نصيب برلين. إلى هنا من الممكن أن نقول إن الوضع القانوني واضح وبيّن، وأن من حق برلين أن تحتفظ برأس "جميلة الجميلات" وألا تفرّط بها. لكن الجانب المصري لا يقبل بهذه الرواية التي تحوم حولها شكوك كثيرة. هل اعتبر المسؤولون آنذاك هذه التحفة عملا من الدرجة الثانية، لذا سمحوا لبورشرت بحملها إلى برلين؟ الجانب الألماني يتحدث عن "حيازة قانونية" ويشير إلى عقود ورسائل تؤكد ملكية متحف برلين لرأس نفرتيتي، هذه "الجميلة التي أتت" إليه ولا يريد التفريط به. أما الجانب المصري فيرى الى المسألة من منظار مختلف. رئيس هيئة الآثار المصرية زاهي حواس، يشير إلى أن بورشرت خدع المصريين، وكسا التمثال بالقماش ثم بطبقة من الطمي، وبذلك بدا عديم القيمة، ووضعه وسط صندوق مليء بقطع الفخار القديمة وشحنه إلى برلين. هكذا وصلت "الجميلة" بحسب الرؤية المصرية إلى العاصمة البروسية عام 1913. المثير للريبة هو سلوك بورشرت بعد وصول الرأس إلى برلين، إذ تم عرض المكتشفات عام 1913 في معرض كبير، باستثناء نفرتيتي. لماذا؟ ماذا كان يخشى المنقّب الألماني؟ لم يستجب بورشرت ضغوط متحف برلين إلا في عام 1924، أي بعد مرور حوالى 12 عاماً على اكتشاف نفرتيتي. لنتذكر سلوك هوارد كارتر، مكتشف مقبرة توت عنخ آمون، في عشرينات القرن الماضي. كان العالم كله يتابع يوما بعد يوم وقائع "اكتشاف القرن". بالطبع لا يمكن مقارنة رأس الملكة الجميلة المصنوع من الحجر الجيري والمطلي بالجبس، بآثار الملك الشاب الذهبية. لكن "إنكار" هذا الرأس، وحجبه عن الأنظار أكثر من عقد كامل، أكثر من مريب.
منذ ذلك الحين لم تتوقف الجهود المصرية عن محاولة استعادة رأس نفرتيتي، أو على الأقل استعارته لعرضه في مصر. لكن هذه الجهود باءت بالفشل. مرة واحدة كاد تمثال نفرتيتي يصل إلى مصر، والغريب أن هيرمان غورينغ تحديداً هو الذي استجاب الطلب المصري عام 1933 عندما كان رئيس الوزراء في بروسيا، علماً أنه لعب دورا غير مسبوق في السنوات التالية في نهب كنوز أوروبا الفنية. غير أن هتلر اعترض على إعادة التمثال، لأنه أراد أن تكون الملكة المصرية درة متحفه في العاصمة الجديدة، غرمانيا، التي ينوي تأسيسها.
لم يصل النزاع بين القاهرة وبرلين حول الملكة الجميلة إلى حد الأزمة. عديد من المصريين يرون أن تمثال نفرتيتي مصون في برلين ومعروض على نحو جيد. النزاع الآن يدور حول استعارة الرأس وعرضه موقتا في القاهرة، وهنا نجد أن الموقف الألماني يتسم بالعجرفة والنفاق: هذا "تمثالنا" و"السيدة عجوز ولم تعد تقدر على تحمل متاعب السفر"، هذا ما يردده مدير المتحف البرليني ديتريش فيلدونغ ومعه وزير الثقافة الألماني برند نويمان. ولكن: كم من معارض مصرية تم تنظيمها على الأراضي الألمانية، وكم من الكنوز "العتيقة" وتماثيل الملوك "القدماء العواجيز" تم تسفيرها من الأراضي المصرية لتعرض على الشعب الألماني. قد يكون ذلك قراراً خاطئا من المسؤولين المصريين الذين ربما يتحتم عليهم بالفعل أن يمنعوا سفر أي آثار إلى الخارج حفاظا عليها. لكن النفاق يتجلى في مواقف مسؤولي المتاحف في الغرب في مثل هذه الحالات، إذ لا يرتفع صوت لعالم آثار واحد ليقول: هذه الآثار يجب أن تُصان وألا تتعرض لمخاطر السفر، من يريد أن يراها عليه أن يسافر إلى مصر. يتسابق مديرو المتاحف في ألمانيا لاستعارة الآثار المصرية وعرضها لديهم، حتى لو كانت عتيقة وهشة ولا تتحمل مشقات السفر. عندما تم تنظيم معرض عن كنوز توت عنخ آمون في مطلع الثمانينات في ألمانيا، سادت حال من البهجة والفرحة والتقدير لهذا "التبادل الثقافي" المثمر. تكررت هذه الطقوس أيضا قبل أشهر لدى افتتاح معرض "كنوز مصر الغارقة" في برلين. لكن التبادل الثقافي لا يشمل تمثال نفرتيتي. يقول الألمان: أهلا وسهلا بكم في برلين إذا كنتم تريدون رؤية الملكة الجميلة. منذ اكتشاف التمثال، لم يُعرض رأس نفرتيتي سوى في برلين. فهل من المستغرب أن يشعر كل مصري، لا سيما علماء الآثار، بالحرقة وبالرغبة في رؤية رأس ملكتهم على الأراضي المصرية، ولو لمدة محدودة؟
لا أعتقد أن المسؤولين المصريين يريدون استعادة رأس نفرتيتي إلى الأبد. هذا مطلب قد يكون غير واقعي، وهم يعلمون ذلك. وقد يكون رئيس هيئة الآثار المصرية زاهي حواس رجلاً يهوى المفرقعات الإعلامية، وهو يستخدم رأس نفرتيتي كقضية كي يقف مرة أخرى في دائرة الضوء. غير أنه محق عندما يقول: إذاً، سنعيد التفكير في التعاون مع علماء الآثار الألمان، ولن نسمح بإعارة آثار جديدة إلى ألمانيا. في المقابل يرد عليه مدير المتحف المصري في برلين ديتريش فالدونغ قائلا: لدينا الآن ما يكفنيا، ولا نحتاج إلى المزيد. بالفعل، لديه أكثر مما يكفيه. إن رفض إعارة رأس نفرتيتي إلى مصر، ينم عن موقف متعال بغيض. لكننا نعرف الإهمال الذي تتعرض له الآثار المصرية. هل يصون المصريون زوجة "العائش في الحقيقة" كما يصونها الألمان؟ هل يعرضونها بالفخامة التي تستحقها؟ أم أنها في العاصمة الألمانية، وكما يرى الرئيس المصري، خير سفير لمصر في الخارج؟ أو كما قال لي روائي مصري: دع الملكة في متحفها الألماني، فلو عادت إلى ضجيج المتحف المصري في ميدان التحرير، لاستغاثت على الفور: أعيدوني إلى برلين!
سمير جريس
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد