موزار روسيا الجديدة في عيد ميلاده المئوي
مع حلول عام 2006 استنفر عالم الموسيقى للاحتفال بالذكرى الـ250 لولادة أسطورة الموسيقى الكلاسيكية وولفغانغ أماديوس موزار (1791 - 1756). وركّز الإعلام ــ ومعه شركات الأسطوانات التي باعت ملايين النسخ ــ على هذه المناسبة متناسياً موعدين لا يقلان أهمية هما: ذكرى مئة سنة على ولادة المؤلف الروسي ــ السوفياتي ديمتري شوستاكوفيتش (1906 ـ 1975) و150 سنة على وفاة المؤلف الألماني روبرت شومان (1810 ـ 1856). إلا أنّ التركيز انصبّ على موزار وخصّصت له برامج معظم المهرجانات السنوية لموسيقاه... فيما قام عدد من العازفين الكبار بتسجيلات جديدة لمؤلفات من ترسانته الضخمة.
ماذا عن شوستاكوفيتش الذي يستحق أكثر من التفاتة عابرة؟ هذا المؤلف الموسيقي وعازف البيانو والمدرس الذي يعتبر من قمم القرن العشرين، ترك بصماته على موسيقى عصره حتى إنّ بعضهم اعتبر موهبته موازية لموزار...
ولد ديمتري شوستاكوفيتش في 25 تشرين الأول من عام 1906. وفي عام 1919 سمعه ألكسندر غلازونوف أحد أهم المؤلفين الروس، وهو يعزف على البيانو، فأدخله المعهد العالي لتعليم الموسيقى الذي كان يشرف عليه في موسكو. وفي السنة عينها، وبعدما أظهر التلميذ المميز مهارات عالية في التأليف، اتخذ غلازونوف قراره: «لنا الشرف بأن نستقبل في الكونسيرفاتوار تلميذاً يتمتع بموهبة توازي موهبة موزار».
تخرج “شوستا” من الكونسرفاتوار عام 1926 وكتب لمشروع تخرجه سيمفونيته الأولى التي نالت نجاحاً كبيراً عندما قدمت للمرة الأولى في روسيا بعد حوالى سنة من وضعها. وذاع صيته كأول مؤلف موسيقي في روسيا الجديدة، نشأ وتعلم في كنف الثورة. فرخمانينوف غادر روسيا إبان الثورة ولم يعد إليها، فيما لم يعد بروكوفياف وسترافينسكي سوى لاحقاً الى بلدهم الأم.
أظهر شوستاكوفيتش ميلاً الى الحداثة واللاتقليدية مستخدماً في تأليفه الموسيقي اللامقامية واللاتناغم والايقاعات المكسرة، وكان يبدي اهتماماً كبيراً بالجاز (متتاليات الجاز الاولى والثانية). وعام 1932، كتب عمله الأوبرالي الثاني «لايدي ماكبث» بعد عمل أول بعنوان «الأنف» (النص مستوحى من رواية معروفة للكاتب الروسي غوغول). لاقت “ماكبث” في كانون الاول 1932 ترحيباً من الجمهور، وظلت تعرض بشكل متواصل لأكثر من سنتين. وحين عرضت الأوبرا للمرة الاولى على خشبة البولشوي، عام 1935، كان ستالين حاضراً في الصالة، فخرج غاضباً ووصف العمل بأنه «بورنوفوني» (مزج بين بوليفوني وبورنوغرافي أي إباحي وخليع). وفي اليوم التالي نشرت صحيفة البرافدا الرسمية مقالاً بعنوان “فوضى وليس موسيقى”! هكذا أجهز على العمل واتهم مؤلفه بالحداثة غير المجدية. ولم يكن المقال موقَّعاً ما جعل بعضهم يعتقد بأن ستالين هو الذي كتبه. وبدأت موجة الانتقادات من المؤلفين الموسيقيين وحتى من المقربين من شوستاكوفيتش الى أن أُوقفَ عرض الأوبرا.
ويمكن اعتبار “رباعي الوتريات” الأول (1938)، منعطفاً في مسيرة شوستاكوفيتش الذي بدأ هنا مرحلة جديدة في منهجه التأليفي قائمة على مبدأ الازدواجية، جمالياً وفكرياً. إذ اعتُبرت هذه الاعمال التي وصل عددها الى 15، تعبيراً صادقاً عما يختلج في داخله وعن أحاسيسه الحميمة وعبقريته الموسيقية غير المشروطة أو المقيدة. لكن لم يكد يمضي عقد كامل على ذلك المنعطف، حتى اتهم المؤلف البارز مجدداً، ضمن مجموعة من أقرانه أمثال خاتشاتوريان وبروكوفييف وغيرهما من المؤلفين البارزين آنذاك في الاتحاد السوفياتي، بكتابة موسيقى “لا توافق ذوق الشعب السوفياتي”. فيما أُشيد رسمياً بالمؤلفين المحافظين أو “الأورثوذوكسيين” إذا شئنا. لكن شوستاكوفيش تابع مسيرته بالخصوبة نفسها، وواصل نضاله من أجل قناعاته الموسيقية. واختار شوستا البقاء في الاتحاد السوفياتي حيث ظل يؤلف حتى وفاته في 9 آب 1975، تاركاً عدداً كبيراً من المؤلفات، شكلت السيمفونيات الـ 15 عمودها الفقري، فيما تختصر الرباعيات صدق مؤلفها وعبقريته.
قبل أربع سنوات من وفاته، كتب شوستاكوفيتش الذي بقي “المؤلف الرسمي في الاتحاد السوفياتي”، رسالة الى أحد أصدقائه، جاء فيها: “لا أستطيع ان أعيش من دون أن أؤلف وأكتب موسيقى”، لذا الطريقة المثلى للتعرف بشوستاكوفيتش ــ كما يقول كاتب سيرته سولومون فولكوف ــ هي في الاستماع الى موسيقاه لا في قراءة سيرته.
بشير صفير
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد