ميلان كونديرا بنى عمارته الروائية بالهدم والموسيقى
قليلون جداً هم أولئك الذين حظوا بفرصة مشاهدة أعمالهم الأدبية تدخل السلسلة الأسطورية الفرنسية La Pleiade «لابلياد» وهم أحياءٌ يُرزقون.
فبعد امثال أندريه جيد وجوليان غرين وأندريه مالرو وبول كلوديل وسان جان بيرس ومارغريت يورسونار ورينيه شار وأوجين ايونيسكو وكلود ليفي ستروس، يدخل اليوم الكاتب التشيكي الأصل ميلان كونديرا مجموعة دار «غاليمار» القيّمة ليشهد في حياته عملية تخليده الحقيقية عبر حَفظ أعماله في مجلدين ضخمين يُجاوران الأعمال العالمية المكرسة.
شرف دخول «لابلياد» ناله أخيراً كونديرا وهو في الثانية والثمانين من عمره، واختياره من بين مئات الكتّاب الكبار يُجسّد فعلاً المجد الأدبي الذي يخفت أمام وهجه بريق كلّ الأوسمة والتقديرات والجوائز والألقاب ورتب الشرف. فبمجرّد أن يرى أحدهم نفسه بمحاذاة تلك القامات الأدبية السامقة من موليير وبلزاك وبروست إلى غوته ودوستويفسكي وأوسكار وايلد وغيرهم من أعلام الأدب يكون قد حقّق الهدف الذهبي الذي يضعه أيّ كاتب نصب عينيه.
وأهمية الحصول على هذه الدرجة الأدبية الرفيعة تُحتّم السؤال عن كيفية اختيار هذا الكاتب أو ذاك لينضم إلى موسوعة «لابلياد» لتخليد آثاره الأدبية.
في الواقع «لابلياد» ليست جائزة أدبية، لذا فإنّها لا تحتاج إلى لجنة تحكيم أو نقّاد لفحص الأعمال الأدبية ومقارنتها واختيار الأحسن بينها، بل إنّها تنتقي كتّابها هي بنفسها.
ويبدو أنّ «لابلياد» كونديرا ستكون الأمثل بالمقارنة مع سابقاتها لكونها تقتفي سيرة كتبها أحد أبرز العارفين بأدب كونديرا وأهم دارسي كتاباته فرنسوا ريكار، الذي تطرّق في مقدّمته إلى أسلوب كونديرا الإبداعي وأعماله وحيثيات إصداراته وكيفية تلقيها. كما أنّ قصص كونديرا القصيرة ورواياته لم تُرفق بملاحظات مفرطة كما جرت العادة، بل عُرضت كما جاءت في نصّها النهائي، مع إشارة إلى الترجمات من اللغة الأصلية، أي التشيكية إلى الفرنسية. أمّا حياته الخاصة فهي غير مطروحة في شكل كبير لأنّ كونديرا من الأشخاص المنكفئين جداً على حياتهم الشخصية. وهو لا ينفك عن إعلان معاداته لكلّ ما يُعرّف تحت عنوان «بيوغرافيا» أو سيرة ذاتية. كما أنّه يرفض إجراء أي مقابلات مباشرة عدا بعض الحوارات المكتوبة التي يردّ عليها بخطّ يده. ويقول كونديرا في هذا الخصوص: «حياتي الشخصية لا تعني أحداً سواي». والمعروف أنّ كونديرا انضمّ في بداية شبابه إلى الحزب الشيوعي، إلاّ أنّه وبسبب خلاف شخصي مع أحد المسؤولين في الحزب، تمّ فصله سنتين، ولكن بعد الغزو السوفياتي عام 1968 اعتبر كونديرا أنّ البلاد غرقت في «ستالينية جديدة متشدّدة» فحارب من أجل حريّة التعبير والأدب والثقافة، وخلع منصبه كمدرّس في معهد السينما في براغ ثمن ذلك، كما فُصل نهائياً من الحزب ومُنعت كتبه وسحبت جميعها من المكتبات.
في ظلّ هذه الظروف اتخذّ صاحب «المزحة» من فرنسا منفاه الاختياري، فهاجر اليها مع زوجته فيرا عام 1975 وعمل مدرّساً في جامعة رين 2 ومن ثمّ في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية في باريس. بعدما سُحبت منه جنسيته التشيكوسلوفاكية، تقدّم كونديرا بطلب الحصول على الجنسية الفرنسية ونالها عام 1981. وتحت وطأة هذه الظروف والمستجدات في حياته، كتب كونديرا «خفة الكائن التي لا تُحتمل» التي جعلت منه كاتباً عالمياً معروفاً لما فيها من تأملات فلسفية تنضوي في خانة فكرة «العود الأبدي» النيتشوية. وفي عام 1995 قرّر كونديرا أن يجعل من الفرنسية لغة لسانه الأدبي من خلال روايته «البطء». وفي هذا السياق قال فرنسوا ريكار في المقدمة التي كتبها عن كونديرا في «لابليياد» انّه حقق معادلة غريبة بعد كتابته بالفرنسية، اذ شعر قارئ كونديرا بأنّ الفرنسية هي لغته الأصلية التي تفوّق فيها على نفسه. وعنه ايضاً يقول الكاتب البريطاني رينيه جيرار: «انّ المدرسة الأدبية التي ينتمي اليها كونديرا ليست انكليزية على الإطلاق لكونها لا تولي موضوع العمل أو مضمونه الأولوية، بل الأهمية تكمن في الأسلوب الإبداعي والعمارة الأدبية في شكل عام. وعندما قرأت كونديرا في بودابست قرّرت أن أصبح روائياً تحت تأثير الدهشة والإعجاب بهذا الإبداع. قرّرت أن أكتب وإنما تبعاً لمنهج المدرسة الأوروبية وليس البريطانية».
قد لا يعرف الكثيرون أنّ كونديرا عاش صدمة حقيقية بعد حوار طويل كان أجراه مع صحافية فرنسية سألته عن أسلوبه الباروكي المزخرف في رواية «المزحة»، الأمر الذي دفعه الى قراءة الرواية بالترجمة الفرنسية التي خيّبت آمله بعدما اكتشف أنّ المترجم حوّر أسلوبه من ألفه الى يائه. بعد هذه الحادثة عكف كونديرا على دراسة ترجمات كتبه وأعاد نشر بعضها لما تضمنته من تحريف لجمله وعباراته وأسلوبه ككلّ.
أمّا أكثر ما يُميّز أدب كونديرا فهو الحرية الكبيرة التي يكتب بها عن الحياة بكلّ ما فيها من تابوات وتساؤلات وإشكاليات. وقد صرّح كونديرا مرّة انّ غربته عن موطنه الأصلي لم تزده الاّ ثقة وحريّة في الكتابة الروائية بحيث لم يعد يُفكّر أثناء انشغاله بالكتابة بأي حسيب أو رقيب. وقد اختار كونديرا بعد مرحلة اللجوء أن يبتعد في أعماله من الخطابة المباشرة بمعنى أنّه لم يتبنّ القضايا السياسية والأخلاقية لتُصبح موضوعات رواياته الأثيرة، بل استخدم ذكاءه الأدبي ليجعل من «السخرية» أداته المفضلة لتمرير بعض أفكاره المبطنّة بعيداً من أي مباشرة أو تصريح. بعدها أتت «الموسيقى» لتُشكّل نقطة القوّة في أسلوبه الروائي، اذ تطغى الموسيقى على جمله النثرية الى حدّ يجعل من نصّه أشبه بقصيدة شعرية سلسة ورشيقة. وقد لا يُدرك الكثيرون أنّ الاهتمام الموسيقي في كتابات كونديرا لم يأتِ بالصدفة، فهذه الموهبة كانت تسري في جيناته قبل أن يشرع في الكتابة أو القراءة ربما. وهذا يعود طبعاً الى كون والده هو العالِم الموسيقي وعازف البيانو المعروف لودفيك كونديرا الذي علّمه العزف منذ نعومة أظافره وعرّفه بالموسيقى وعالمها الواسع البديع.
فضلاً عن أنّ صاحب «فن الرواية» عمل في فترة من حياته عازف بيانو جاز، وهذا ما انعكس جلياً في أسلوبه الكتابي الذي ينمّ عن موهبة ومعرفة وإتقان موسيقي، ما دفع بعضهم الى وصفه بأنّه موزّع بارع لأعماله الروائية كافة.
انّ دخول كونديرا عالم «لابلياد» يعني خلوده الأدبي وبالتالي تكريس رؤيته كروائي متمرّد عرف كيف يُشرّح الإنسان ومجتمعه باعتماده الفكاهة حيناً والتضمين في أحيان أخرى.
وككلّ مرّة، بعد وصول أحد المبدعين الكبار الى منصة الشرف الأدبية المتجسدة في سلسلة «لا بلياد» الأدبية يبدأ السؤال عن هويّة «التالي». ويبدو أنّ الأسماء المتداولة داخل «دار غاليمار» وفق بعض المصادر الثقافية الفرنسية تدور داخل مثلّث يُشكّل زواياه كلّ من باتريك موديانو وميشال تورنييه وجان غوستاف لو كليزيو...
مايا الحاج
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد