هل تتفرّج سوريا على لبنان بعد خطاب الأسد؟
إنشغل السوريون بأحداث بلدهم التي إندلعت شرارتها في آذار ٢٠١١. تدرّجت الأزمة السورية وتعدّدت صفحاتها، لكن دمشق إجتازت الحرب العسكرية، وإستعادت الدولة معظم مساحاتها التي إحتلتها مجموعات عسكرية إرهابية، بإستثناء مناطق في شمال وشرق البلاد.
هل إنتهت المعركة التي تخوضها سوريا؟ بالتأكيد لا تزال مفتوحة. يُمكن رصد كل خطابات الرئيس السوري بشار الأسد، وآخرها خطاب القسم، لم يُظهر فيها الأسد أي إستعداد لأي تنازل عن حبّة تراب واحدة من الجغرافيا السورية. لم تُفلح كل ضغوطات الحرب والترغيب والترهيب طيلة عشر سنوات مضت، أن تغيّر فاصلة في خطاب الأسد المرتكز إلى ثوابت وطنية-عربية. لا بل إن الرئيس السوري مصمم على إعادة عناصر القوة الاقتصادية لبلاده عبر إستعادة كامل ارضها التي تحوي حقوقها وخيراتها الزراعية والنفطية والصناعية والبشرية المتوافرة في مساحات الشرق والشمال. تلك التحديات هي في برنامج وسلوك السوريين الذين يُدركون الاّ إرتياح مالياً ومعيشياً من دون استعادة الدولة لمقدراتها في المساحات المذكورة.
وعليه، فإن الأجندة السورية مليئة بالأولويات. فهل لبنان يُعتبر أساسياً في حسابات دمشق؟
لم ينقطع التواصل اللبناني-السوري يوماً لا في السلم ولا في الحرب. بقيت اللقاءات والاتصالات ناشطة، يشكّل ركيزتها السفير السوري في لبنان علي عبد الكريم علي الذي دفع بإتجاه تأليف لجنة سياسية-إقتصادية بين البلدين باتت تجتمع وتقدّم توصيات مهمة. لكن التعمّق في مضمون خطاب الرئيس السوري بشأن لبنان، وخصوصاً حول أموال السوريين في المصارف اللبنانية، يفرض السؤال: ما هي المصلحة السورية في لبنان؟.
ان خطاب الأسد يعني أن الاستقرار اللبناني هو مصلحة سوريا عُليا. لا يمكن التنفس عبر الرئة-لبنان في حال كانت عليلة ومصابة بمرض الزلازل السياسية التي تستولد الهزّات الامنية والاقتصادية. لذا، إضافة للعوامل الداخلية الوطنية والأخلاقية، فإن واجب حلفاء سوريا في لبنان، تسهيل تأليف حكومة سريعة قادرة على الحد من الانهيارات التي تصيب الرئة بالخلل قبل العطب التام.
يمكن هنا استعادة تجربة عام ٢٠١١، يوم كانت المصلحتين اللبنانية والسورية تقضي بتأليف حكومة سريعاً من دون تأخير إضافي. وقتها، عندما وصل رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي الى حائط مسدود خلال عملية التأليف الحكومي، نتيجة سباق على المقاعد والحقائب السنيّة، أقدم رئيس مجلس النواب نبيه بري على التنازل عن حقيبة ومقعد شيعي في الحكومة كانت من حصة حركة “أمل” لصالح الوزير السابق فيصل كرامي، فوُلدت الحكومة. ما أشد الحاجتين اللبنانية والسورية لخطوة شبيهة: لماذا لم يقدّم أحدهم تنازلات وتسهيلات حكومية، تتعلق تحديداً بالوزيرين المسيحيين-محور أزمة التأليف؟.
طُويت صفحة الحريري الحكومية، ليذهب لبنان نحو تكليف شخصية أخرى، الأسبوع المقبل. هل تتفرج دمشق على حلفائها من دون التمني عليهم أن يقللوا من تداعيات الانهيار اللبناني؟.
أظهر خطاب الأسد إشارات ضمنية تفيد بأن مصلحة دمشق هو الإستقرار اللبناني، وعودة العافية للإقتصاد والقدرة للمصارف، على الأقل من أجل عدم ضياع الودائع المالية السورية، مما يستلزم التصرف اللبناني بحكمة وعقلانية يُبعدان بشكل اساسي النكد السياسي عن حسابات حلفاء وأصدقاء سوريا في لبنان. لا يُمكن البقاء في مساحات الفشل، ولا ترك الساحة لبعض اللبنانيين ينصّبون أنفسهم في الإعلام حرّاساً للحدود السوريّة، وهم يحاولون زوراً الإيحاء بأنهم ينطقون بإسم دمشق، فيرسمون ويحدّدون وينظّرون، وكأنهم يمثلون نفوذاً شعبياً لبنانياً أو يتصرفون بناء لاشارات سورية. في الواقع، لا يمثل هؤلاء في لبنان الا أنفسهم، ولا سوريا أوحت او أوعزت لهم بأي موقف او إشارة أو تصرف.
تتصرف سوريا كدولة وازنة في الإقليم. لم تستطع الأزمات التي أصابتها أن تنزع عنها ثقل ووهج الدولة.
اذا كانت دمشق تتفرج، تسمع، لا تتدخل في شؤون اللبنانيين، وتكتفي بالبقاء على مسافة واحدة من كل حلفائها، فإن مضمون خطاب الرئيس السوري أتى كعادته يُحاكي التحديات، ومنها ما له علاقة بلبنان. فليذهب حلفاء سوريا اولاً الى الحفاظ على الرئة عبر وقف الثرثرة الإعلامية، والإلتزام بأدبيات الحلف المذكور، وتنظيم صفوفهم، وفرض منطق وطني لإستيعاب باقي القوى السياسية، وإجهاض مشاريع الفتن، والإرتقاء إلى خطاب الأسد، والسعي لإحتضان كل مكونات البلد، بدل التلهي بطموحات شخصية.
إن مصلحة سوريا تكمن بإستقرار لبنان، وبتأليف حكومة قادرة، وعبر إستعادة الاقتصاد اللبناني عافيته، وتوسيع مساحة العلاقات السياسية.
لا مصلحة لسوريا بأن يسود منطق الكانتونات اللبنانية، ولا خطاب التقسيم، ولا لغة العزل، ولا التقوقع. لن يفيد سوريا أي ثرثار يستغل حاجة المؤسسات الاعلامية اللبنانية لضيوف يملأون الفراغ، كي يحاول تسويق نفسه عبر ذم الآخرين.
ان مصلحة لبنان وسوريا تقضي بعدم إستبعاد أي فريق ولا دفع أي فئة نحو الداعشيّة التي تحاول الانتعاش في الاقليم مجدداً. لذا، فليتوقف الثرثارون عن التحريض والإدعاء والدجل، وليتركوا الحكماء يتصرفون لترسيخ منطق الاستقرار اللبناني، لتحصين الساحة، ومنع رميها في الفوضى المفتوحة على كل صعيد.
آن الأوان كي يصمت الثرثارون عن الكلام. تلك هي اولى الخطوات لتحقيق المصلحة اللبنانية والسورية.
النشرة - عباس ضاهر
إضافة تعليق جديد