وزارة العمل وطفلة جسر شارع الثورة
السيد وزير شؤوننا الاجتماعية: هذه ليست حكاية لاستدرار عطفكم.. ولا لدفعكم لاتخاذ قرار عاجل، وليست من أجل جمع أكبر قدر من العبرات من قراء قد يكون بينهم أب له ابنة كتلك الطفلة المرمية على جسر المشاة في شارع الثورة.. تبيع وترسم.. ولا تتسول. السيد الوزير مع فائق الاحترام، كل ما تقوم به وزارتكم لا يساوي انطواء طفلة بين أقدام المارة، طفلة لا تمد يدها لمال الله من جيوب أحد، فقط تبعث برسالة إلينا نحن الذين نتحاور ونرد على بعضنا بكتب رسمية تنفي تارة وتؤكد أخرى.. وأما ما يثير الفزع أن الطفلة هذه قد تكون المثال اللطيف عن تقاعس وزارتكم في تحسين شؤوننا، ولكن الشوارع مليئة بأمثلة مفزعة.
هنا حيث يمر الناس مسرعين إلى أشغالهم، وتختلط الأصوات.. باعة ما يمكن أن يباع، وصفارات الشرطة، وزحمة المنتظرين على موقف صغير يعج بالبسطات وأرتال سيارات خط (جادات سلمية)، والكراجات، تبقى فسحة للذين لا يحبون العبور المخالف من بين الزحام.. الصعود على جسر المشاة.
قعدت طفلة تتجاوز العاشرة، ووضعت بضاعتها السخيفة، قطع من السمسم المخلوط بالسكر (سمسمية) كما يعرفها الناس، بلا أي صوت، ولا تنده ككل الباعة لتسويق بضاعتها، لا عبارة استجداء واحدة، وبجانب البضاعة خلعت (شحاطتها) الصغيرة ووضعت في حضنها دفتر الرسم، وتلون طفلة لا تشبهها بثوب أزرق.
لا يكترث المارة بها، ولا موظفو وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل التي انتقل مقرها إلى الشارع نفسه، وأما هي فلا تعرف في قاموس حياتها أنها مسؤولة من بشر موظفين لأجلها، يتقاضون الرواتب لأنهم سيهتمون بها وبأمثالها.. إنها حكايات الأطفال المرميين في شوارعنا من أجل لقمة عيشهم أو لقمة عيش سواهم.
في محاولة للبحث عما يمكن أن يتماشى مع حالة الطفلة كان اللجوء إلى موقع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل خياراً من الممكن أن يحقق الفائدة.. لكن المفاجأة التي لا تصل إلى درجة الصدمة مع وزارة تمارس عملها منذ عقود أن يكون الجواب عند الدخول إلى أغلب الأبواب (هذا المستند قيد الإنشاء)، وخصوصاً في باب المعاهد التابعة للوزارة.. حيث يمكن أن يكون مصير فتاة وأمثالها أهون من الضياع.
في الموقع وللتعرف على رؤية وإستراتيجية الوزارة، وفي باب الأهداف العامة في مجال الشؤون الاجتماعية وضعت الوزارة على عاتقها جملة من المهام والأهداف تسهل الانتقال الصعب بين سوقين، سوق مغلقة لعقود، ومفتوحة أفرزتها السنوات الأخيرة للقفزة التاريخية نحو اقتصاد السوق الاجتماعي التي تبنته الخطة الخمسية العاشرة؟!
حتى تاريخه ما زالت الوزارة ترى في الخطة المنصرمة دليل عمل، وبعدم وجود البدائل ربما تعذر الوزارة، ولكننا الآن نضع كل أزماتنا الاقتصادية في سلة الحكومة المنصرمة وبرنامجها الاقتصادي الذي أنتج الخطة العاشرة؟
ومع ذلك ما هو دور الوزارة في مجال العمل مقارنة بأهدافها النظرية التي تختصرها بعبارة واحدة (تخفيف الآثار السلبية للانتقال إلى تنافسية اقتصاد السوق على الفئات المهمشة في المجتمع و رفع معدلات النمو الاقتصادي و الاجتماعي فيه، و الجمع بين هدفي النمو و عدالة التوزيع)... فيما نرى الآن أننا نحصد النتائج الخطيرة لهذا الانتقال، وتأثيره على الفئات المهمشة التي أنتجت صورة هذه الطفلة المهملة على جسر المشاة في شارع الثورة.
لنقرأ في رؤية وإستراتيجية الوزارة
الأهداف العامة:
أ- في مجال الشؤون الاجتماعية:
- الانتقال من مفهوم الرعاية الاجتماعية إلى مفهوم التنمية الاجتماعية وذلك من خلال الاهتمام بالشأن الاجتماعي ذي الأثر البعيد والمستدام بدلاً من الخدمة الاجتماعية ذات الأثر العاجل والمؤقت .
- زيادة نسبة استفادة ذوي الاحتياجات الخاصة من الرعاية الاجتماعية من خلال التوسع بمراكز الرعايـــة الاجتماعية كماً ونوعاً.
ب- في مجال العمل :
- تحقيق البعد الاجتماعي لاقتصاد السوق من خلال الانتقال السلس إلى بيئة اقتصاد السوق الاجتماعي ضمن توجهات الخطة الخمسية العاشرة .
- تخفيف الآثار السلبية للانتقال إلى تنافسية اقتصاد السوق على الفئات المهمشة في المجتمع و رفع معدلات النمو الاقتصادي و الاجتماعي فيه، و الجمع بين هدفي النمو و عدالة التوزيع.
اقتصاد السوق الاجتماعي هو المصطلح الذي دخل حياتنا مستنداً إلى وعود بالسعادة والرخاء، وأطفال يتعلمون دون عناء، وسوق عمل جديدة محشوة بفرص العمل التي ستحققها المشاريع والاستثمارات.
اقتصاد السوق فتحه ولكنه أغلق الأبواب أمام أرزاق الناس وقادهم إلى الفقر، ودفع بعائلات إلى دفع أبنائها إلى سوق العمل بالرغم من دور وزارة العمل في حماية الأطفال من التشغيل.
النتائج البسيطة كانت في ازدياد عدد المتسولين الذين لا يمكن لهم أن يدخلوا السوق، وبالتالي نشأت في فترة وجيزة ظاهرة استخدامهم في التسول.
في سوق الشعلان يقول صاحب أحد المحلات: في المساء يقوم رجل بنشر الأطفال من أول السوق إلى آخره، وبعضهم يأتي بالطفل مع بضاعته، وهؤلاء يتعلقون بالزبائن، ويصرخون، ويشتمون من لا يعطيهم، ويدخلون المحلات.
صاحب محل آخر: يجلس طفل لا يتجاوز الخامسة أمام المحل يومياً يبكي ويضع قدمه اليسرى مخفية لتبدو كأنها مقطوعة.
في المساء يعود الرجل الذي وزعهم ويلمهم بالعكس كما يقول آخر.. وهذه الظاهرة لم تكن موجودة قبل وقت قريب، وانتشرت معها السرقات، ودخل السوق في فوضى من انتشار بعض الأولاد حتى في الحديقة المجاورة للسوق (السبكي) وهناك شكاوى من الأهالي سكان المنطقة، هذا عدا عن المنظر المؤلم وغير الإنساني لهؤلاء الأطفال.
قفزة السوق الاجتماعي قادت إلى ما هو أخطر من المنظر الجديد لدمشق، ولم يعد التسول مجرد ظاهرة، بل اتسع ليشكل قاعدة لمهنة تتطور في اتجاه أن تصير جريمة منظمة.
بعض الأولاد الذين ينتشرون في منطقة البرامكة يقومون بنشل المحافظ النسائية، وسرقة بعض البضائع من الأكشاك المنتشرة في المنطقة، وأما ماسحو السيارات فيمارسون مهنتهم في منتصف الطريق وهذا ما يعرضهم للخطر، هذا بالإضافة إلى أنهم يمشون حفاة وأجسادهم نحيلة ومتسخة.
لم تكن الغاية من الرسالة فقط الحديث عن الدور الاجتماعي للوزارة أو رصد حالة واحدة رغم إثارتها، ولكن الطفولة في وطني تبدو في أقسى صورتها، ولا يمكن لعاقل أو محب أن يحتمل كل هذا الأذى.
في غاية الرسالة أن السوق الذي تتبناه الحكومة ووزارة العمل في رؤيتها وإستراتيجيتها خلق مناخاً لنمو الظواهر السلبية وفي أهمها عمالة الأطفال، وأكثر من هذا دخولهم إلى عالم المدن السفلي، وسبل الجريمة والرذيلة.
من الممكن أن تحتمل منظر طفل في ورشة ميكانيك لا يتقاضى أكثر من 200 ليرة وسندويشة فلافل بدعوى تعليمه المهنة، ومن الطبيعي أن تحتضن ورشة خياطة طفلة تتعلم مهنة تساعدها على الحياة مع زوج فقير.. لكن الخوف من تفشي الجريمة بأشكالها المادية والأخلاقية بين الأطفال هو الذي يجعلنا نصرخ قبل أن نرى جيلاً من المجرمين يعيش في شوارع مدننا التي كانت تتغنى بأمانها وهدوئها.
عبد الرزاق دياب
المصدر: قاسيون
إضافة تعليق جديد