فلامنكو وباليه في أوبرا دمشق
في ختام رئاسة إسبانيا للاتحاد الأوروبي كان الجمهور السوري على موعد مع واحدة من أهم فرق المسرح الراقص في العالم، إذ استضافت دار الأسد للثقافة والفنون بالتعاون مع سفارة المملكة الإسبانية في دمشق فرقة “أنطونيو غاديس” الشهيرة، لتقدّم رائعتها المكوّنة من عرضي الفلامنكو: “عرس الدم” و”سويت فلامنكا” مساء الثالث والعشرين من حزيران (يونيو) الفائت.
الفرقة دشنت الأمسية بعرض “عرس الدم” وهو تحفة فنية بحق، لها تاريخ عريق، يحمل توقيع ثلاثة من أهم مبدعي إسبانيا في القرن العشرين: الشاعر الكبير فدريكو غارسيا لوركا، المؤلف الموسيقي ومصمم رقصات الفلامنكو الشهير أنطونيو غاديس والمخرج السينمائي العالمي كارلوس ساورا. العرض مأخوذ عن مسرحية شعرية بالعنوان نفسه كتبها لوركا بوحي من حادثة حقيقية وقعت في مدينة نيجار في العام 1928، وفيها إدانة للعادات والتقاليد البالية من خلال قصة حب عاصف تنتهي بمقتل العاشق.
غاديس قام في العام 1974 بخطوة رائدة من نوعها في ذاك الزمن، حين قدّم النص في إطار عرض مسرحي راقص، زاوج ما بين الباليه والفلامنكو، بعدما تولى زميله الفريدو مانياس اعداد العرض ليتناسب مع فن الباليه، ومنذ ذلك التاريخ تبنى غاديس أعمال لوركا وقدّمها بالأسلوب نفسه، ليثبت بجدارة أن خطاب الجسد قادر على موازاة اللغة الشعرية.
بعد ست سنوات من عرض “عرس الدم” في أهم مسارح العالم، اتفق ساورا مع غاديس وفرقته على إخراج العمل سينمائيا بأسلوب المسرح داخل السينما والحكاية داخل الحكاية، ولقي الفيلم نجاحا كبيرا، وتكررت التجربة في أفلام أخرى، كان لها أثرها البالغ على انتشار فن الفلامنكو في مختلف أرجاء العالم.
ولم تنتهِ نجاحات فرقة أنطونيو غاديس برحيله، فما زالت الفرقة بإدارة شريكته ستيلا أراوزو تجوب العالم، وتقدّم عروضها بتصاميم مؤسسها إياها وقد باتت اليوم واحدة من أشهر كلاسيكيات الرقص المعاصر.
بالعودة إلى “عرس الدم” فهو عرض راقص يتألف من ستة مشاهد مدتها خمس وثلاثون دقيقة، تدور حول قصة حب محرّم بالمعنى الاجتماعي ربط بين رجل متزوج (أدريان غاليا) وشابة (كريستينا كارنيرو) سوف يُعقد قرانها على رجل لا تحبه (خواكين موليرو). ليلة الزفاف تهرب العروس مع عشيقها ويختبئان في الغابة، حيث يلحق بهما العريس المخدوع وأهل القرية للدفاع عن التقاليد المتوارثة والشرف المستباح، وهناك تدور المبارزة بالسكاكين بين العشيق والعريس، ويُقتل الاثنان أمام أعين العاشقة البائسة.
والمدهش في أداء الفرقة هو القدرة على المزاوجة بين عنفوان الفلامنكو وإيقاعه الضارب وبين انسيابية الباليه في وحدة حركية تعبيرية متناغمة قاربت الدراما الشعرية بلمستها المؤثرة، لا سيما في مشهد اللقاء ما بين العاشقين حين عبّر الراقصيّن عن لحظات الانخطاف والتجاذب واشتعال الرغبات بعد سحر النظرة الأولى.
هناك أيضا مشهد المبارزة الذي جاء بلا موسيقى أو غناء، تحت بؤرة ضوئية هي أشبه بضوء القمر، وبأداء حركي بطيء جدا عبّر عن الزمن النفسي لأطراف الصراع، وبينما كان الرجلان يقتتلان كانت العروس في الخلف تدور وكأنها طير ذبيح، وحين سقط القتيلان عند أقدامها، وتخضّب ثوبها الأبيض بالدم، تلاشى الضوء، وانبعث صوت الغيتار حزينا يرثي عشقا كبيرا قتلته التقاليد.
العرض الآخر جاء بعنوان “سويت فلامنكا” وخلال خمس وخمسين دقيقة قدّمت الفرقة متتالية من اللوحات الراقصة، الافرادية والثنائية والجماعية، مكونة من ثمانية مشاهد ترافقت مع غناء وعزف حي على آلة الغيتار، وكان غاديس قد بدأ بتصميم أول مشاهد هذه المتتالية في العام 1963، وأتمها بعد خمس سنوات، ليعكس تنوع وغنى جماليات رقص الفلامنكو التقليدي من وجهة نظره الخاصة.
الأمسية كانت مدهشة بكل المعاني والتفاصيل بدءا من التعبير الحركي، مرورا بالألحان والأغاني، وصولا إلى الأزياء والإضاءة، وقد أنعشت قلوب المشاهدين الذين وقفوا مطوّلا وصفقوا بحرارة تقديرا لأداء الفرقة الرائع، تماما كما فعل الحضور حين تعرّف على فرقة غاديس للمرة الأولى بعدما قدّمت باليه “كارمن” ضمن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية في العام 2008.
تهامة الجندي
المصدر: الكفاح العربي
التعليقات
لاه
إضافة تعليق جديد