«العجائب» الحائز الجائزة الكبرى في «كانّ».. أرواح حرة
احتفى «العجائب» للمخرجة الإيطالية الألمانية آليتشي رورفاكر، الفائز بـ«الجائزة الكبرى» لمهرجان «كانّ» الـ67 (14 ـ 25 أيار 2014)، بشهامة إنسانية لأناس ذوي جسارة وأقدار عجائبية. عائلة ماكرة تعيش نأياً مكانياً واقتصادياً، يقوم على الزراعة والرعي وتربية مستعمرات نحل والمتاجرة بعسلها، ما يفرض على أفرادها العيش ضمن برّية مطلقة كأرواح حرّة. «كومونة أوروبية» نادرة الوجود، تناضل للبقاء فاعلة وحيويّة وسط رأسمالية لا ترحم، متحصّنة في حقول مناطق لازيو وأومبريا وتوسكاني الإيطالية المشهورة تاريخياً بعدائها لأتمتة الزراعة.
اختتمت رورفاكر باكورتها «جسد سماوي» (2011) بمشهد لافت للانتباه، يسأل فيه فتى غريب الصبيّة مارتا: «هل ترغبين في رؤية أعجوبة؟»، ليقدم لها ذيل سحلية مقطوعاً، يتلوى حياً على راحتي يديها، إيذاناً بـ«قطيعة» شخصية مع حياة رتيبة مليئة بخيبات ونفاق محيطين بها. تتجدّد هذه «الأعجوبة» في الفيلم الثاني، لكن بروح مفعمة بالبِشْر، عندما تُخرِج ابنة الـ12 عاماً غيلوسمينا (ألكسندرا لونغو) نحلات حيّة من فمها، تشبّهاً بملكة خلية عذراء، تأوي وتحضن وتحمي وتُطعم وتقود عائلة من 6 أشخاص وضيفة دائمة تدعى «كوكو»، تحقّق لاحقاً مهمة دفاع مريرة ضد إمرة قانون مجحف، ضحيته صبي ألماني صاحب سوابق صغيرة، تستضيفه العائلة كجزء من خطة إعادة تأهيله، قبل أن يهفو قلب غيلوسمينا له.
من أولويات هذه الأخيرة، زعامة تثبت الجماعية وحضور المبادأة الشخصية. فتوزيع العمل وتكليفاته تتمّ كلّها بـ«نفس حزبي»، وأوامر قطعيّة، والتخلّف عن أدائها معجزة. لن تُزيح الشابة إرادتي والديها، بل تهديهما نحو صَون ممتلكات «الكومونة» ضد دخلاء، على شاكلة صيادين تعبث كلابهم بالمزروعات، أو مبيدات ضارة تميت النحل وتدمّر مستعمراته واقتصادياته. البيئة وديمومتها، في هذا النصّ اللمّاح، ذات ديناميكية إحيائية أكثر منها حيزاً للتوطّن. عليه، تضع ملمّة تدمير غلّة العسل على كَوْنهم العائلي إزاء مأزق، يقود البطلة إلى مكيدة تلفزيونية نجمتها مونيكا بلّوتشي، غاوية الريفيين للمشاركة في مسابقة ونيل جائزة كبرى. فهل للمعجزات دسائسها وفتنتها؟
كما في باكورتها، صوّرت رورفاكر جديدها بصيغة «فيلم واقع»، لكن ليس بتورية وثيقة سينمائية، انتصر لعفويّة متألقة، تواجه فيه عالمان قريبان إلى تعاسة اليومي، وضمن عار مقدس مزدوج. أسرة تُقلع من جذورها، بينما يصوّر مهرّج إعلامي أبناءها كحيوانات سيرك سرعان ما يتخلّى عن مصيرهم، بعد أن ملأوا له فراغاً في الزمن السيبيري لفبركاته. المعجزات لن تأتي من الخارج. ففي عرف الفيلم، هي كامنة في قدرة البشر على صنع حظوظهم وتدبَّر حيواتهم وأرزاقهم. بحسب كلام رورفاكر: «ليس هناك بشر صالحون أو طالحون. هناك فقط أناس مكشوفون، وآخرون نجحوا في حفر جحورهم. أحياناً كثيرة، مَنْ أبانوا عن أنفسهم هم الخاسرون، لكن حتى في شعورهم بمهانة الذات لإخفاقهم، يكون ذلك وسيلة لتحقيق عزائهم». مقابل هذا، تتجلّى معجزات صغيرة، بحسب عدسة هيلين لوفار، عبر عناصر الحياة وعظمتها، من «ضياء وظلال، وحيوانات أليفة، وأسرار طفولة» كما أشارت المخرجة. بيد أن الخذلان الثنائي في المزرعة و«مسابقة بلّوتشي» يقود العائلة إلى تغييب درامي سحري، إعلاناً عن عثرة حاسمة أمام غول اقتصادي شره، ومثلها هزيمتهم في تحسين أدوات دفاعاتهم. فبعد 110 دقائق من التجوال حول مزرعتهم ومعامل تخزين عسلها وتعبئته، داخل حضائرها ومراعي حيواناتها، وبين جدران غرف نومهم وملاعب بناتها الصغار، وعند طاولات مسامراتهم ومناكفاتهم، تختتم رورفاكر نصّها بالمنزل الريفي مهجوراً ومتهالكاً، كأن شياطين نسيان سَرْطنت ذاكرة عائلة كانت مليئة بالحياة، لتتحقق هِدايَة أخيرة وصفتها المخرجة كالآتي: «ربما يقارب هذا فيلم (ثيمة) الإخفاق. البشر لا يتغيّرون، ولا يحسّنون (من أحوالهم). إن لم يملكوا مكاناً منذ البداية، فمن المؤكّد أنهم لن يجدوه في نهاية مطافهم».
زياد الخزاعي
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد