«حب وموت في بالي» لفيكي بوم: يوم توقفت السعادة
يعرف هواة الفن السابع لا سيّما أعماله الكلاسيكية، اسم فيكي بوم من عناوين فيلم «الفندق الكبير». ففيكي بوم هي صاحبة الرواية التي أُخذ عنها هذا الفيلم الذي مثّلت غريتا غاربو فيه دور البطولة. وسبب شهرة بوم من خلال الفيلم هو أنها كانت واحدة من أوائل الكاتبات النساء اللواتي وضع اسمهن في شكل بارز على ملصق الفيلم. بعد ذلك اقتبست السينما أفلاماً عدّة من روايات تالية للكاتبة، لكنّ أيّاً منها لم يحظ بما حظي به «الفندق الكبير» من شهرة. هذا بالنسبة إلى هواة السينما، أما هواة الأدب، والأدب الروائي بصورة خاصة، فإنهم عرفوا اسم فيكي بوم من خلال أعمال روائيّة لها فضّلوها دائماً على «الفندق الكبير»، إذ وجدوها أعمق موضوعاً، وأفضل أسلوباً، وأكثر جدّية في التعاطي مع بعض قضايا العالم. وإذ تقول هذا، يرد إلى أذهاننا اسما روايتين لها: «الغابة التي تبكي»، ثم بخاصة «حب وموت في بالي»، التي كتبتها ونشرتها في العام 1937، أي قبل عام من حصولها على الجنسية الأميركية بعدما كان النازيون قد اضطروها لمبارحة وطنها النمسا.
> ولعل الغريب في أمر فيكي بوم هو أن عدداً من رواياتها يحمل أحداثاً وأجواءً تدور في مناطق نائية جداً من العالم، حيث إن المرء يتساءل، من أين تراها استقت كل هذا الخزان؟ ومن أين جاءت بسرد من الواضح أنه يحتاج إلى أن يكون كاتبه ابن المنطقة، أو شخصاً زارها وعاش فيها سنوات. وليست هذه، على أي حال، وضعية فيكي بوم، وعلى الأقل بالنسبة إلى «حب وموت في بالي». ومع هذا، وفي القسم الأوّل من الرواية، يعيش القارئ في تفاصيل حياة الناس في تلك القرية الصغيرة النائية الواقعة عند الشاطئ الجنوبي لجزيرة بالي الإندونيسية. وهي تفاصيل تدخل في عمق التناقضات الاجتماعية والطبقية، وتعطي حيّزاً واسعاً لممارسات وطقوس معمول بها في ذلك المكان من العالم، ولكن من دون وقفات نقديّة حتى من أمور قد تصدم القارئ. فالكاتبة هنا لم ترد أن تجعل نفسها خبيرة في الشؤون الاجتماعية أو واعظة تعلّم الناس كيف يعيشون على الطريقة الغربية. وهي ليست عالمة انثروبولوجيا من الخارج تعطي دروساً: هي كاتبة ترصد الواقع وتصوّره وتكمن غايتها في أن تنطلق منه لتحكي، عن المجابهة الأولى ليس بين سكان المنطقة الموسرين وفقرائها، وليس بين التحديثيين منهم والتقليديين، علماً أن كل هؤلاء موجودون وكلاً منهم يلعب دوره، بل بين سكان يعيشون نمط حياة قديماً وعريقاً، وبين قوى استعمارية تأتي من الخارج فتحاول أول الأمر أن تنهب تاركة كل شيء على حاله طالما أنه لا يؤثر في نهبها، لكن الأمر ينتهي بها إلى التدخل العسكري ومحاولة إجبار الناس على تغيير حياتهم، حين تبدأ هذه الحياة بالتعارض مع مصالحها.
> القوّة الاستعمارية هنا هي القوّة العسكرية والاقتصادية الهولندية التي كانت تسيطر على ذلك الجزء من العالم، والتي بالكاد نحسّ لها وجوداً أول الأمر. ففي الفصول الأولى من «حب وموت في بالي»، نعيش بين أهل القرية البسطاء، وأهل قصر الراجا الكبير، زعيم القرية الإقطاعي المهيمن على حياة الناس وعلى كل شاردة وواردة في القرية. والرواية تختار من أهل القرية، باك، الشاب البسيط المستقيم والهادئ، الذي أنجب من زوجة أولى ثلاث بنات يعشن معه، لكنه الآن يجد نفسه أمام إغراء أن يتخذ زوجة ثانية. وفي منزل العائلة يعيش إلى باك وبناته، شقيقته الصبية لامبون التي تعتبر أفضل مؤدية لرقصات الشعائر الدينية في المنطقة. وغير بعيد منهم، يعيش الشاب راكا ابن كاهن القرية المحبوب من السكان جميعاً، لأنه لا يفتأ يعلّمهم فرح الحياة والعيش بسلام وهدوء. هؤلاء هم الأشخاص الذين تركز الرواية على وصف حياتهم وعلاقاتهم منذ صفحاتها الأولى، فتدخل بيوتهم وترافقهم في حلّهم وترحالهم، وإلى مزارع الرز حيث يكدحون. وإلى المعابد، ثم بخاصة ترافقهم في أعيادهم وطقوسهم ومنها طقوس الاحتفال بذكرى الموتى، التي ويا لغرابة الأمر، يحتفل بها السكان بفرح ما بعده من فرح.
> منذ البداية ترينا فيكي بوم كم أنّ الحياة متناسقة هادئة في ذلك المكان من العالم، المكان الذي لا يعرف معظم سكانه أنّ ثمّة عالماً آخر واسعاً يقع خارجهم. بالنسبة إليهم حدود العالم هي حدود جاوا. ويمكن لهذا الأمر أن يتواصل إلى الأبد طالما أنّهم يحترمون التقاليد والتقسيمات والعادات. إذ هنا ثمّة نظام طبقي هو الذي يسيِّر كل شيء وهو الذي يحدّد الحقوق والواجبات، لا سيما الواجبات المعمول بها، ومنها ما هو شديد السوء لكنه بالكاد يُرفَض، مثل اضطرار زوجة الرجل الغني إلى رمي نفسها في المحرقة، حين يموت زوجها. المهم هنا هو أن هذا كله جزء من «الطبيعة» ولا بد من عيشه كما هو... تماماً كما يجب القبول المطلق بعيش بقيّة التقاليد ومنها أيضاً تقديم القرابين للآلهة من دون هوادة درءاً لغضبها الذي قد يحرّك كوارث الطبيعة أو قد يرسل فئراناً عملاقة تدمّر المحصول...
> بيد أن هذا القبول بالتناسق الأزلي، لا يمنع باك، ذات يوم، من أن يشعر أن ثمّة ظلماً كبيراً يحيق به، نتيجة ضغوط لا يمكنه مقاومتها طويلاً. فمثلاً ها هو الأمير المهراجا يقرّر أن يتّخذ من أخت باك زوجة جديدة له. وها هو أخوه تُفقأ عينه لمجرّد أنه حاول أن يقيم، يوماً، علاقة مع واحدة من زوجات الأمير. وها هو باك، الذي لا ينتمي إلى شريحة نافذة في المجتمع، مرغم على أن يعطي الأمير نصف محصوله في كل موسم. والأمير لا يكتفي بهذا، بل ينتزع من باك أفضل ديك عراك موجود في المنطقة. إنّ باك يشعر بهذا كله ولكن... ليس في يده حيلة. إذ عليه أن يساهم، على رغم كل شيء، في إبقاء التناسق قائماً في ذلك العالم.
> لكن مساعي باك شيء، ونظرة الهولنديين إلى ذلك العالم شيء آخر. إذ ها هم يبدأون بالظهور القاتل ذات يوم، حين يحدث أن يغرق مركب لهم عند شاطئ القرية. وإذ يهرع السكان إلى إنقاذ البحّارة يجدون أنفسهم متّهمين بنهب ما عليه. وإذ يجد الحاكم الهولندي نفسه ناظراً في القضية، يكون في هذا كله مناسبة لإحياء مطامع المستعمرين الهولنديين من ناحية، كما من ناحية أخرى مناسبة لتذكير السكان المحليين بمن هو سيدهم هنا حقاً. ويأتي ذلك في وقت يكون الانكليز، الموجودون بدورهم كقوّة استعمارية في مناطق غير بعيدة من ذلك المكان، بدأوا يفكرون في اللعب على التناقضات بين السكان المحليين والهولنديين. وهكذا، من دون أن يريدوا ذلك، يجد السكان أنفسهم في خضم لعبة المصالح بين الدول الكبرى النافذة في المنطقة. فالزمن هو بداية القرن العشرين، وبدايات الوعي كان لا بد لها أن تتسرّب إلى كل زاوية في العالم، مع تسرّب صراعات الأقوياء. وهكذا يدقّ ناقوس الخطر، لبدء تفكّك الحياة القديمة لدى سكان القرية، ويبدأ الهولنديون بإرسال مدافعهم ورجالهم. واعتباراً من تلك اللحظات، تختفي كل أمارات السعادة والحياة الهادئة من تلك القرية ويحلّ الكابوس الذي ما كان أحد يتوقعه. وإذا كان باك، الغارق في همومه الخاصة وشكوكه، قد فضّل ألّا يتدخّل في شؤون الأقوياء، فإن الأمير على العكس منه يستدعي الألوف من السكان، بمن فيهم الأطفال والنساء لمؤازرته مضحِّين بأرواحهم لردّ الإهانة التي يوجِّهها الهولنديون إليه. والذي يحدث في النهاية هو أن السكان المحليين تحت قيادة الأمير، يوجّهون إلى الهولنديين المستعمرين درساً قاسياً، لكن الثمن سيكون باهظاً، لأن السعادة والصراعات الصغيرة وسرور العيش ستختفي كلها إلى الأبد من ذلك العالم الصغير.
> في بداية نشاطها المهني، كانت فيكي بوم (1888 - 1960) صحافية وموسيقية، لكنها اتجهت لاحقاً صوب الأدب. ولقد شجعها نجاح «الفندق الكبير» على الاهتمام بالأدب أكثر فأكثر، لا سيما منه الأدب الذي يصوّر مصائر الناس البسطاء أمام الأحداث الكبيرة. وهكذا أمضت النصف الثاني من حياتها، مواطنة أميركية تصدر الرواية بعد الأخرى. ومن أشهر أعمالها، إلى ما ذكرنا، «قنابل فوق شانغهاي» و «الغابة التي تبكي» التي روت فيها تاريخ الكاوتشوك، من خلال جولة روائية حول العالم
وكالات
إضافة تعليق جديد